كم نكون مخطئين، وكم نكون واهمين في أحيان كثيرة، حين نظن أننا نعرف حقيقة الأشخاص الذين نتقاسم معهم الحياة، سواء في البيت أو العمل أو في المدرسة أو الجامعة، نتوهم معرفتهم على وجه اليقين إلى الدرجة التي نعطي فيها لأنفسنا ذلك الحق المطلق في الحكم عليهم من خلال سلوكهم الظاهري، وكم تكون صدمتنا قوية حين نكتشف الحقيقة، أحياناً نكتشفها في الوقت المناسب، حيث لاتزال هناك بقية من عمر لإصلاح خطيئة الوهم، وأحياناً أخرى كثيرة تكون سهام القدر قد نفذت، وما كان غيباً مخبئاً تحول إلى حقيقة صادمة وما عاد أمامنا سوى الندم!
وكنت قد قرأت منذ سنوات طويلة كتاباً بعنوان: “الحب” لمؤلف أميركي هو في الحقيقة أستاذ لمادة علم النفس في إحدى الجامعات الأميركية، وكان يحكي في الكتاب بعضاً من أعمق تجاربه الإنسانية في المجتمع الأميركي، حيث يتربى الفرد منذ طفولته في المنزل، في المدرسة، ومن خلال الكتب والسينما والمطعم وكل آليات السياسة وبرامج الاقتصاد وغيرها على أنه كفرد، هو الغاية، وما بعده فليس مهماً أبداً، فما بعده ليس سوى الطوفان••!
في أحد فصول كتاب “الحب” يتحدث الأستاذ عن طالبته الجميلة والذكية والمليئة دائماً بالحيوية والبهجة، تلك الطالبة التي فوجئ ذات صباح بأحد زملائها يفجر في وجهه خبر انتحارها ملقية نفسها من أعلى جرف في المنطقة، تاركة سيارتها الفارهة مفتوحة وبداخلها رسالة وداع لوالديها!
لقد صعقه الخبر، وتوقف كثيراً عند ذلك الغموض الذي لف حادث انتحارها المفاجئ، سأل زملاءها وأصدقاءها وزار أبويها في المنزل وسألهم كذلك، لكن لا أحد من عائلتها أو أصدقائها أو زملائها يعرف السبب الذي قاد فتاة في مثل جمالها وذكائها وتفوقها وثراء عائلتها إلى الانتحار، لقد كانت رائعة كما يصفها الأستاذ، وكان لا ينقصها شيء كما كان يتصور، ومع ذلك فقد أقبلت على الانتحار، وهو فعل لا يمكن أن يقدم عليه أي شخص هكذا من فراغ، لابد أن هناك سبباً قوياً جداً، لكن أحداً لم يعرف السبب، ما يدل على أنه لم يكن هناك قريب منها ليعرفها ويعرف ما الذي ينقصها، ولسنوات طويلة ظل ذلك الأستاذ يذكر تلك الحادثة دليلاً على “عدم حبنا في المجتمع الأميركي لبعضنا البعض” كما كان يقول!!
من أجل ذلك، أنشأ هذا الأستاذ في الجامعة، ولأول مرة، فصلاً سماه “فصل الحب” يدرس فيه مادة اختيارية سماها مادة “الحب” أراد من خلالها أن يعلم طلابه كيف يقتربون من بعضهم بعضاً، وكيف يشعرون ببعضهم، كأن يجعلهم يجلسون متراصين على شكل حلقة متقابلين، متقاربين بحيث يسمع بعضهم بعضاً جيداً، ويحسون ببعضهم جيداً، ومع ذلك فقد لقي هذا الفصل معارضة شديدة من زملائه الأساتذة في هيئة التدريس، وسخرية من بعضهم الآخر!
حتى كان ذلك اليوم الذي ألغى فيه الأستاذ “ليو” فصله مثار الجدل، وقدّم إجازة مفتوحة لمدة عام، وسافر إلى شرق آسيا لوالى بورما تحديدا، حيث تنقل بين القرى التي تغرق في مياه الفيضانات والأمطار نصف العام تقريباً، يقضي فيها السكان أيامهم ولياليهم الطويلة والشاقة تلك، طافين على طوف خشبي ضمن مجاميع من عدة أسر تتعاون معاً لتمرير هذه المأساة بأقل قدر ممكن من الشكوى، وبأكبر قدر ممكن من التلاحم والتعاون، لقد عاش حقيقة الإنسان حين يقترب من إنسانيته الحقيقية، تلك الحقيقة الغائبة عن إنسان الغرب المتطور.


ayya-222@hotmail.com