عثرت في مكتبتي القديمة على كتيّب صغير الحجم، قليل الصفحات، حائل اللون، عنوانه “أراغون”، من إصدار المؤسسة العربية للدراسات والنشر في سلسلة أعلام الفكر العالمي عام 1974. على الأرجح أنني اقتطعت ثلاث ليرات من ميزانيتي الصغيرة في ذلك الوقت، لشراء الكتاب من أجل مؤلفه وليس موضوعه. فالمؤلف هو الشاعر والمسرحي والمترجم اللبناني عصام محفوظ، وهو من أوائل الذين نقلوا قصائد الشاعر الفرنسي لوي أراغون إلى العربية. عرفت عصام محفوظ في محطتين، الأولى في البدايات، بداياتي مع عالم القراءة. والثانية في النهايات، نهايته على سرير المرض. رحت أروي للشاعر الرابض في سريره ما الذي جرى في ذلك الصيف القائظ من عام 1972. كان يستمع بشغف وبانتباه، وعندما تيقن من ملامح القصة قاطعني بحركة من يده وأخذ القلم والدفتر اللذين كان يتواصل بهما مع زواره ليكتب: 1971. وعندما دققت لاحقاً في التواريخ اكتشفت أن ذاكرة الشيخ أكثر دقة من ذاكرة محدثه. في ذلك الصيف كانت القوات الإسرائيلية تشن أول اجتياح برّي لمناطق حدودية في لبنان. حاصرت قرى وبلدات، ودبت الذعر في قلوب الناس الذين لم يكونوا قد وطنوا أنفسهم على هذا النوع من الخطر. كاد ذلك النهار الناري ينطوي، حينما لمحت من بيتنا على أطراف البلدة، كتلة سوداء ترتقي الطريق الترابي الصاعد من الوادي، حيث دمرت الطائرات الإسرائيلية منذ الصباح الجسر الوحيد فوق النهر. أخذت ملامح ذلك السواد تتضح مع كل خطوة صعوداً، حتى بانت تماماً: رجل ثلاثيني في كامل قيافته، بذّة سوداء وربطة عنق غامقة وحقيبة صغيرة، يمتطي حماراً. قبل أن يوغل المشهد في سورياليته، كان الرجل يستنجد بشربة ماء يتبرد بها. روى عصام محفوظ رحلته المحفوفة بالمخاطر من بيروت إلى الجنوب، منتدباً من جريدته (النهار) لتغطية الأحداث، وكيف أنه كان في السيارة قبل لحظات من تدمير الجسر، ما اضطره إلى استئجار هذا الحمار لكي يخترق به خطوط الحصار الإسرائيلية. استمعت بشغف لمغامرة عصام محفوظ، ابن بلدتنا (جديدة مرجعيون)، الذي تتناقل أخباره الصحف وتلهج باسمه المنتديات الثقافية. ومنذ ذلك الحين كان عليّ أن أتابع محطات هذا المثقف الذي بدأ حياته شاعراً، تأثر وأثر في حركة مجلة “شعر”، من خلال مجموعاته “أشياء ميتة” 1959، و”أعشاب الصيف” 1961، و”السيف وبرج العذراء” 1963، و”الموت الأول” 1973، قبل أن يمارس دوره التأسيسي في الحركة المسرحية اللبنانية الحديثة بنصه الاستثنائي “الزنزلخت”، ثم “القتل” و”كارت بلانش”، و”الحرية” و”التعري”، بالإضافة إلى سلسلة كبيرة من الدراسات والترجمات في مختلف الحقول الإبداعية. كنت في صيف 2005 أرافق الوالد في أيامه الأخيرة، عندما علمت أن جاره في المستشفى عصام محفوظ، العائد حديثاً من غيبوبة طويلة أخذت منه قدرته على النطق. فقد أصيب بنوع من الجلطة في الدماغ، حينما كان مندفعاً في “ورشة” تنسيق لعدد من كتاباته، وتوليفها في كتب عدة، ووضع مقدمة لكل كتاب منها تآلف بين موضوعاته.. كان مستعجلاً لإنجاز هذا المشروع، كما أخبرني كتابة، لأسباب كثيرة، منها أنه يريد أن يتفرغ لكتابات إبداعية يختزنها في ذاكرته. وعدني عصام محفوظ، قبل رحيله بأسابيع، بأن نلتقي، حينما يستعيد عافيته ونطقه، لكي نواصل حواراً لم يقم أصلاً، لم ينقطع أبداً.. منذ ذلك اللقاء بين الكاتب الشهير والفتى الغرير وبينهما حمار وحشد من الدبابات والطائرات الإسرائيلية... adelk58@hotmail.com