تتغرب اللغات وتهجر عشها الجميل، تتسرب أو تتبعثر مفرداتها عبر الزمان والمكان، وقد تنسج على سائر الخليقة كيانها، تملأ الطبيعة الجغرافية بفضاء من الحروف والكلمات المسترسلة، تكسو الألسنة للبقاء أو تمحو وتندثر ما يفضي بها إلى الغياب.. إلا لغة الصمت، فإنها تصبح مرادفة لكل اللغات المتعانقة بصور الحياة، تبدو لغة بمنوالها العجيب وبحضورها الساحر، لغة تفصح عن أحلام ندية وجمالية تشرق، وقد لا ترقى إليها لغات المعمورة إلا أنها تسترسل من خلالها. لغة الصمت ذات فلسفة جميلة، تمزج انفلات الوقت بالتأني، وتمنح حيز التفكير شيئا من التروي، ومن صفاتها التحليل والتدبير المتقن، وما تفرزه من تصوير أو تعبير يتشح بالحقيقة، ومن أثار الصمت البحث عن التجدد، فمن فضائل الخالق على البشر تعدد اللغات البديلة، الزاخرة بالحياة، والمتممة حين تعجز اللغات الناطقة عن التواصل ما بين البشر والطبيعة كافة، فأمام هول الوقع يقف الإنسان صامتا، وتنفصل اللغة واللسانيات بكل معاجمها ومفرداتها عن جهاز الجسد، وربما يفقد جهاز النطق وظائفه، فلا يجاري الواقع رغم ما يحظى به من كلمات ومفردات. إذن لغة الصمت ذات تفاصيل تعبيرية صادقة غير مواربة أو مصطنعة، قريبة من الفهم، موجزة المحتوى، وتلم بالتقدير المقترن بالحيثيات، لغة غير تقريرية ولا مفرطة بالتأويل، تديرها النفس باقتدار يرقى إلى الذكاء والبلاغة والشفافية، تمتزج بجمالية الروح وصفو النفس. ولأنها لغة الروح تتسم بالبلاغة، وهي أجمل إذا ما تحلى بها المرء، وقرارها يكمن بالصعوبة إذا ما الجد علا الملامح، وفحواها الرضا إذا ما استقر الصفو ما بين العيون، فضاء للحب لها إذا ما تميز الصمت بالابتسامة، أما إذا ما تجمد الوجه كالجليد فان علامة ذلك أقسى من الحزن وأشد ألما على النفس. هي لغة التأمل والتعامل مع نسيج الحياة مثلما يشير العلم، ويدرك تماما أهمية لغة الصمت والتأمل من حيث معالجة النفس البشرية بغية تحررها من شوائب ملتصقة بجدار الزمن والإكتراث اليومي. لغة الإنسان المتألق بنواحي الحياة، وكإجراء إبداعي تأملي يمتهنه كثير من الأدباء والشعراء ويستسقيه كذلك العلماء، فالصمت ليس دائما مقترنا بالجمود، بل هو عامل يعكس جهد المنتج الثقافي والأدبي. ومن مزاياه التناغم الجميل ما بين الفكرة والتأمل، لغة الذاكرة المسترسلة بالذكريات والمواقف المتزامنة. لغة الصمت هي التأمل، لغة المفردات الدالة على الثقة والوثوق والتحرر من لغة البوح المعلنة بالتفاصيل، لغة لها جمالية بوشوشة البحر، لغة القلاع الصامتة أمام فوضى الريح، لغة آخر الليل وشروق الشمس المكتسي بالأمل المتزامن ونسمات الصبح.