في بعض البلدان ينظر إلى الشخص العالم، المتخصص بشكل دقيق في مجال معين من مجالات العلم والمعرفة على أنه ثروة لابد من المحافظة عليها إن كانت في البلد، أو استقطابها إن كانت في بلد آخر. ذكرت لي إحدى الطالبات المواطنات أن أحد مديري المؤسسات في الدولة قابلها في إحدى الكليات، وقد تحمس لها كثيراً بعد أن عرف بمؤهلاتها، لكنه قال لها: إن هذه المؤهلات أكبر من أن يتم استيعابها لديه في أية وظيفة، وأنه يرى أنها خسارة كبيرة أن يضعها في أية وظيفة عنده، كما ذكر لي أحدهم قصة طبيب مواطن بتخصص نادر تخرج من ألمانيا و حاولوا معه هناك أن يعمل لديهم كاختصاصي و لكنه رفض وعاد للبلاد و أول صفعة تلقاها من دائرة الصحة حين وضع على درجة متدرب وبراتب متدن جدا !! بعض مسؤولينا لا يرون أية خسارة في أن يترك هؤلاء الشباب بما يمتلكونه من مؤهلات وقدرات هكذا عرضة للبطالة والجري وراء الوظيفة ثم القبول بأية وظيفة في نهاية المطاف! وذكر لي أحد القراء مرة أن أحد أقاربه كان يدرس في الولايات المتحدة في تخصص دقيق ومهم، وقد بقي هناك عشر سنوات لينال درجة الدكتوراه، أما تأخره في نيل الشهادة فلا يرجع إلى فشله أو تخلفه أو عبثه، إن ما أخره هو عبقريته التي قادته إلى استحداث أكثر من جهاز في مجال الطرق، وحين اكتشف المسؤولون عن دراسته هذه العبقرية عرضوا عليه العمل هناك وبإغراءات لا تقاوم، لكنه رفض رغبة منه في أن يعود بشهادته وعلمه إلى وطنه، ما دفع بهم إلى عرقلة دراسته وتأخير تخرجه، وحين قرر العودة من دون أن ينال الشهادة رضخوا لرغبته ومنحوه إيّاها على مضض! فصول قصته لم تنته هنا، فعندما عاد وطرق الأبواب المناسبة لتخصصه، أغلقت كلها في وجهه بحجة أن تخصصه غير مطلوب، وعندما ذهب إلى الجامعة ليدرس بما حصل عليه من علم وجد أن هذا التخصص غير متوفر، فوضع تعب العمر وحلم السنين جانباً، واشتغل في التجارة مع والده!! هذه مجرد نماذج ضمن حكايات كثيرة تعج بها حياة الباحثين عن عمل، والمؤهلين منهم بشكل خاص، وحياة المؤسسات التي تستقبل نماذج مختلفة من طلاب العمل، ليس جميعهم ممن يقال بأنهم غير جادين في التعامل مع الوظيفة. فإلى جانب أشخاص بمؤهلات ضعيفة ونفوس ضعيفة وهمم متدنية، هناك شباب وفتيات لديهم من العلم والمؤهلات والتدريب والعبقرية ما لا يمكن تخيله. وللأسف فكثير من هؤلاء يرفضون إما لأن تخصصاتهم غير متوافقة مع الوظائف المطروحة، أو لأن مؤهلاتهم عالية جداً لا يستوعبها السلم الوظيفي والدرجات الوظيفية، وإما لأن الأشخاص المسؤولين عن التوظيف ليسوا بالذكاء والحرص المطلوب على ثروات الوطن البشرية! لدينا ثروات تضيع فعلاً في مجال البشر المؤهلين وتحتاج إلى استراتيجية أكثر دقة ووضوحاً لاكتشافهم أولاً واحتضانهم، ومتابعة الاستفادة منهم والحرص على عدم إهدارهم. هكذا ببساطة لأنهم ثروة المستقبل الحقيقية