غالباً ما يتم تداول هذه العبارة “النبض الإنساني في الأدب”، وربما ذكرت بلا تعليق أو حواشٍ وشروح، تظهر ماهية هذا النبض ومواقعه وصوره، فتطرح كمسلّمة بلا أدلة تدل عليها. وقد دفع لي صديق شاعر، بكتاب له يرغب في إطلاعي عليه وإبداء ملاحظات حوله قبل أن يقرر نشره. وهذه الثقة غالباً ما أثمّنها، ولا أسمح لنفسي بالتواطؤ مع ثقة الكاتب بي، فأسوّغ له ما لا أستسيغه، وأوجد مبررات للنص غير موجودة فيه أو طافحة من حواشيه. الكتاب الموضوع بين يديّ جملة نصوص متفرقة بين نظم ونثر، وهي نصوص أقرب لخصوصيات البوح ورسم خطوط علاقات عائلية، ورسائل مرسلة للأهل: الأب والأم والأخ والأبناء.. والرسائل خاصة وحميمة وتنطوي على خصوصيات حياة عائلية، أكثر مما هي رسائل أدبية أو تتناول مواضيع عامة أو شؤوناً شائعة بين الناس. وكان جوابي بعد الاطلاع عليها: انشرها.. لماذا؟ ـ لأن فيها النبض الإنساني للأدب. وما هو النبض الإنساني في مثل هذه النصوص والرسائل العائلية الخاصة؟ سألت نفسي، فوجدت أن النبض الإنساني قد لا يكون بحاجة لكلفة عالية في الأدب، أو لضغط في الغموض والتعقيد لكي يطفو على سطح النصوص ويطل بوجهه من داخلها. يكفي أن يكون النص صادقاً وزاهياً ويمدّ اليد للآخر لكي يتمتع بهذا النبض. والتعقيد في هذه المسألة قد يفسد الإرسال ويضع الرسالة في متاهة. النبض الإنساني في الأدب غالباً ما يكون بسيطاً ومعبراً وشبيهاً بحركة فتى يحب فتاة فيأخذ يدها بصمت ويرفعها بيده ويضعها على صدره. صحيح أن النبض الإنساني وحده كالأخلاق، لا يكفي لصنع الأدب، فالأدب صعب ومتطلب، ولكن مع كر الأيام تبين لي أن ثمة نصوصاً كثيرة ذات تقنيات عالية في الكتابة، ينالها التحجر وتتحول إلى متحفية أدبية لخلوها من النبض الإنساني. كيف أشرح ما أرمي إليه؟ بالتأكيد في النبض الإنساني جزء من العاطفة وجزء من التعاطف وذاك الإحساس بأن الناس معنيون بما نقول عنايتنا الشخصية به. وعلى سبيل المثال، فإن رسالة عائلية كان أرسلها الكاتب من بلدته “بنت جبيل” في الجنوب اللبناني إلى أخيه محمد (أبي علي) المهاجر في ديترويت ذات يوم من أيام 1989، شكلت نصاً إبداعياً بسيطاً وعميقاً، طافحاً بلمسات الرفق البشري متأملاً لصيرورة العمر بين الأخوين مقارناً بين زمان غارب (جميل) وزمان راهن كالح. يقول الكاتب: “أنا بشوق زائد إليك. أحببت هذه الليلة أن أسهر معك.. ربما كنت تذكر أو لا تذكر عندما كنت صغيراً وأنا الأكبر بينكم كم لاعبتُكَ وداعبتُكَ وأضحكتُكَ وأبكيتُكَ، وكم رتبت شعرك وألبستك أزهى ثيابك وأخذتك معي إلى الكروم أو إلى بيت الجدّ. صدقني يا أخي أن مأساة الإنسان تتلخص في سرعة الأيام وهي تطوي عمره. ما كان أحلى طفولتنا وشبابنا يا أبا علي. صدقني يا أخي أن للأرض نداءً وأن حب الوطن هو الوجع المقيم”.