من سير التجربة البشرية الطويلة التي تمتد منذ سيدنا آدم عليه السلام إلى هذه اللحظة التي تتجسد فيها الحروف والتي ستقسط بدورها في الماضي بمجرد الانتهاء من قراءة الحرف الأخير، لا يوجد اتفاق بين البشر على فكرة أو شكل أو مكان أو حوار أو لغة.. ومن غير الطبيعي هو النقيض تماماً، أي الاتفاق. لكن كيف تمكن الإنسان من الاستمرار في البقاء طالما لا يوجد اتفاق مطلق ويوجد اختلاف دائم؟ بالتأكيد حدث شيء خارق داخل المسيرة البشرية الطويلة، أدت به إلى هذا الزمن الذي يشهد أعظم منجزات البشرية، وفي الآن نفسه يشهد أبشع أفعالها. وفي منظومة (الخير والشر) دار صراع كبير بين البشر نتج عنه هدر دماء كثيرة على كل الكرة الأرضية من أجل إثبات فكرة أو من أجل تكريس عرق أو تأكيد الهيمنة واغتصاب حقوق الجماعات والشعوب. وفي داخل هذا الصراع كان هناك من البشر من ناضلوا ويناضلون من أجل تكريس ثقافة جديدة في المسيرة البشرية كي يعبر الإنسان فوق هذا الكم الهائل من الدماء المسفوكة والأجساد المبادة من أجل تحقيق الزائل والمنتهي في لغة المستقبل .. ناضلوا ويناضلوا كي يعبر الإنسان ويصل إلى المنطقة الأرحب في هذه الحياة التي ما زالت تسير في الطوفان.. يصل إلى منطقة القدرة على التسامح والسلام والمضي قدماً نحو تكريسهما كمفهوم وثقافة لا بد أن تسود في الحياة. ثقافة تولد ثقافة متممة ومكملة وهي ثقافة الحوار، أي القدرة على الجلوس على طاولة واحدة بأفكار مختلفة، لكن بأرواح عالية النقاء .. عقول تتخاطب وهي متوجة بقدر عالٍ من الوعي بلغة الحوار الذي يبني ويتحرك إلى الأمام دائماً ليحقق الأهداف الأجمل، بناء على معايير منطق القياس الذي يستحضر (الماضي وتراكمه في الحاضر، التجربة ونتائجها، التجربة ومثيلاتها). وكيف يمكن إحداث هذا الحضور المثالي للحوار؟ لا يمكن بناء ثقافة للحوار دون بشر مدركين لقيمة عقل الإنسان وتجاربه، قيمته ككيان كامل، والإيمان بحقه في القبول والرفض، حقه في الاطلاع والمعرفة، حقه في الكلام والصمت. وهذا الإدراك بالطبع يجب أن يكون حاضراً لدى كل من يجلس على طاولة الحوار .. وهنا عند هذا الحد يتحقق الحوار المثالي، بالاحترام والتقدير المتبادلين؛ فالحوار هو نوع من أنواع التحضر والرقي وليس العكس، حيث يعتقد البعض بأن حرية الحوار هي مفتوحة حد التطاول والتجريح عند نقطة الاختلاف، وفي الطريق الذي يُعتقد بأنه مسدود، فيما لا توجد معضلة في كل هذا الكون ليس لها حل ومخرج .. فإن تكون كبيراً هو أن تستطيع قبول الاختلاف واحترامه مهما كلف الأمر، فعملية بناء الروح الإنسانية الكبيرة تكمن في هذه القدرة على القبول. ??? فيما تدور عجلة الحياة تبقى البشرية على الدوام بحاجة إلى وجود الحكماء الذين يتسيّد المنطق حروف لسانهم وتحضر البصيرة على الدوام كفعل معالج للمعضلات البشرية التي كثيراً ما تؤدي إلى الكوارث، حيث جحيم العالم تاريخياً يكمن في تهميش العقلاء والحكماء من مشهد الحياة. سعد جمعة saadj mah@hotmail.com