كان شارع الخالدية في أبوظبي يسترسل في مساره الهادئ، حين وقع النظر عليه. يجلس القرفصاء، يأخذ زاوية تحت ظلال البناية الشاهقة، وبشكل لا يدع العين أن تتجاوزها، بدت لافته المحل وقد سطرت حروفها بمساحة متسعة عن لغة هندية. جلس الرجل محتفظا بطريقته المهندمة عشوائيا، ملابسه لا تدل على ذاته ولا على بلد جاء منه، بلغ من العمر عتيا، يحمل مذياعا بحرص شديد ويلصقه بصدغه الأيمن، كأنه يحاول أن يؤثر على ورود الأخبار البعيدة. لم يكترث بما حوله، وقد أدار ظهره لفضائيات باتت لا تجدي أخبارها رغم الصورة عالية البيان، ورغم التقنية التي تجاوزت أبعادها وكست من حولها بالخيال. كأنه أراد القول بإن الصورة أوضحت بينما مشاهد الحقائق غائبة، أو أنها باتت أكثر جزئية وتنصلا من القناعة، مرادها أن تطرح وابلا من الأحاديث والتحاليل الإخبارية، إلا ان صوت المذياع بالنسبة له يتدفق مثل نهر سلس يلملم عمق الحقائق وصفوها، ويجنب المشاهد الصور التي تبدو ربما أكثر زيفا، واستفزازا أكثر يلحق الضرر، على الرغم من أن لا أحد ينفي بأن الصورة الحق أقرب إلى المشاهد وهي تغني عن التحري والبحث. او ربما كان يستمع إلى الأخبار الرياضية، وقد كف نفسه عن البرامج المتلفزة ذات التحاليل غير المتزنة، وقد نأى بنفسه عن صراخ يدوي بلا معنى، ولربما كف نفسه عن الجلوس لساعات طوال أمام جهاز التلفاز تجنبا لاستطلاعات لا تسمن ولا تغني من جوع، وبلغة الحسابات والأرقام الموجعة فإنه يعفي نفسه من تكلفة مشاهدة المباراة من خلال “الأستديوهات” المباشرة والعابرة.. ألم تتجاوز الكرة متعتها الرياضية؟ أو لربما تجاوزه الوقت قليلا ولم يكترث بوابل التقنية العصرية والتي تغزو العالم، متمثلا “بالإنترنت والفيس بوك” وغيرهما من مواقع الشبكة العنكبوتية التي تورد الأخبار من أقصى العالم الى أدناه وتحررها كيفما تشأ، او ربما تراه قد سئم من البحث والتحري، وأراد العودة إلى تلك الأيام الخوالي حين كان البحث عن قناة “تلفزيونية” يتطلب الجهد الذي يوازي ساعات طوال. رجل يصيبك بالدهشة رغم أن زمن الدهشة قد ولى، إلا هناك من يحاول ان يعيد منظومة قد اندثرت وتبددت كالذي يصر على استخدام قلم قديم لم يعد البشر يتداولونه، او ذاك الذي يحمل مفكرة قد عفى عليها الزمن، ليس بوسعه أن يرى زمن الانكسار على رونق جديد، بل يستمتع بمفكرة وقد تناسلت خيوطها وبدت بدون ذاكرة.. إلا إن حصيلة ذلك يبدو جميلا وهو إئتلاف الروح مع الماضي، خصوصا وأن للمقتنيات القديمة وقعها وخاصيتها وهي مصدر الهام للمستقبل. تجرد الرجل من ضوضاء المدينة ومن ضجيج النساء الخارجات من محل “راجو”، وعلى مسمعه ينطلق همسا لربما بادره بقصيدة جميلة أو بلحن قديم لازال يطرب صمته المزمن.