ليس إحساساً بالدونية تجاه اليابان واليابانيين كما قد يعتقد البعض، لكنه الإعجاب الطاغي بهم، الإعجاب إلى درجة قراءة الحدث الياباني والسلوك الياباني والتربية اليابانية بطريقة عقلانية وصحيحة ومحاولة المقاربة قدر الإمكان مع واقعنا العربي لأن الله قال “خلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ..” والتعرف يقود للمعرفة والمعرفة تغير الواقع حتما لأنها تزيد الوعي وتوجهه للصالح العام ولصالح الفرد أيضاً.
عدت مجدداً لفترة الحرب العالمية الثانية حينما ألقت الولايات المتحدة بقنبلتها الذرية على اليابان فقتلت في ساعات معدودة مئات الألوف من البشر ودمرت قرى ومدناً وأحياء وإنجازات، وفي لمح البصر تلاشت مدن واختفى بشر، وظل تأثير القنبلة القاتلة وإشعاعاتها السامة في دماء الأهالي يتوارثونها جيلاً بعد جيل، فلم تكتف القنبلة بقتل من كان حياً في تلك السنة من عام 1948، وإنما ظلت تشوههم وتقتلهم حتى اليوم، مع ذلك فلا شكوى ولا صراخ ولا عويل ورغبة في إعادة عجلة الزمن للخلف والانتقام من أحد، تعالت اليابان على كارثتها وانطلقت لتصبح مارداً علمياً واقتصادياً، في حضرة الإمبراطور والتربية اليابانية الصارمة والملتزمة والأخلاقية جداً والإنسانية أكثر مما نتصور!
وعدت إلى الكارثة اليابانية الأخيرة، الزلزال المدمر وتسونامي الذي سحق مدناً وقرى، وأباد مئات الألوف في أقل من دقيقتين، وتساءلت لو أن هذه الكارثة حلت بدولة أخرى ماذا كنا سنجد؟ أولاً ستعلن الولاية أو المنطقة منكوبة، وتحتاج إلى مساعدات عاجلة، ستعلن حالة طوارئ قصوى في البلاد، ستحتشد وسائل الإعلام بجميع قنواتها ومستوياتها لطلب المساعدات الدولية العاجلة، وفي كل مرة سيتم التركيز على من فقد كل عائلته، وذاك الذي صار في العراء، وتلك الصغيرة التي نجت بأعجوبة وتحتاج إلى إعانة عاجلة و... إلخ.
ستمتلئ الشاشات بمشاهد تستدر الدموع والتعاطف، وستنهال المعونات والمساعدات، وحتى تصل، سينتشر في كل نشرات الأخبار عبر وكالات الأنباء أخبار مؤكدة عن انتشار أعمال النهب والسرقة للمحال، خاصة محال بيع الخبز والأغذية، كما سيتزاحم الناس على محال السوبر ماركت لشراء ما يمكن شراؤه لأن الوقت وقت محنة وأزمة، واحتمال شح الغذاء والماء بشكل قاطع، وسيتصارع الناس على تسلم المعونات أو على الشراء بشكل هستيري.
لم أجد خبراً واحداً يقول إن في أثناء الكارثة المرعبة قد سجلت أقسام الشرطة اليابانية حادث سرقة واحد أو حالة نهب أو بلطجة أو اعتداء، ولم تعلن اليابان أن مناطقها الشرقية المتضررة من الزلزال وتسونامي منطقة منكوبة، ولم تتقبل أي مساعدات، ولم تعرض شعبها على الهواء “لتشحت” عليهم أو تستعطف العالم ليساعدها، لقد فتحت مخزونها القومي من الأغذية والأدوية وحتى ألعاب الأطفال وفرشهم وملابسهم، كانوا يتسلمون ما يحتاجونه فقط ويشترون ما هم في حاجة إليه فقط، كانوا يتصرفون بأدب غريب وبتحضر لا يمكن أن يكون لشعب في عز أزمته إلا في المدن الفاضلة.
في الحقيقة كانوا يمارسون تطبيقاً عملياً لفضائل اليابانية التي تربوا عليها بشكل جماعي، بحسب ما ورد في كتب تربيتهم ونصائح فلاسفتهم وحكمائهم، فضائل الاحترام والصبر والشجاعة في مواجهة أي مخاطر، والتضحية لأجل الأكبر والأكثر احتياجاً و.... إلخ، التربية ليست مثاليات كتب، إنها الصبر عند الصدمة، والتناغم الاجتماعي على المستوى العام في أوقات الفرح العام والكوارث الكبيرة .. أيها اليابانيون .. إنكم حقاً عظماء !


ayya-222@hotmail.com