مثل حمامة بيضاء ذهبت تتبع غيمتها، طارت في أيام خلف ظلها نحو مكان أرحب من منزلها، كانت مشيئة الرب أن تكون بجوار رحمته وبرد جنته، في أسبوع مر هكذا دون أن نعد أيامه خلّفتنا سلامه بنت بطي والبيوت ما زالت تنتظر وعدها بالمرور عليها يوم الثلاثاء أو الأربعاء، لكنها سبقت أيام وعدها بيوم كان الاثنين موعد دفنها، كان أسبوع وأظلمت الدنيا في عينيها ورقدت محاولة أن تتذكر من مر بدنياها، أسبوع لم تهنأ فيه بالبيت الذي أمر الشيخ محمد بن زايد به لها، لم تهنأ بتلك العطية التي أخبرت صديقاتها وفرحهن لها، ودعون لولدهن محمد بطول العمر، أسبوع سرق العمر، ولم تسعد برؤيتهن لتقول لهن كلمة الوداع الأخيرة.. كان أسبوعها الأخير متعباً من التنقل بين أبوظبي والعين، لم يمهلها قلبها الصافي مثل وجهها، أن تزور من انقطعت عنه في أسبوعها، لم يمهلها لكي تزرع البيت بالنخيل كيفما تحب، ومن نخيل هي عطايا ممن تحب.. كان للناس الأولين فرحة خارجة من القلب تعم الجميع، فقط لأن أحدهم أسعفه حظه، وأسعده وقته وجاءته بشارة سر بها الجميع.. هكذا فرحن صديقات سلامه لها، ثم حزن عليها وعلى هذا الأسبوع السريع الذي لم يمهلها لترى فرحتهن، ويرين ضحكتها التي تسبقها إليهن، ماذا نقول ونتعذر لبنت هادي التي تبكيها أشد ما تكون أعز صديقاتها، وتزّغ عليها حنواً أشد من بنتها.. فقط كان معظمهن يردن أن يسرقن من عينيها اللوزيتين الواسعتين المائلتين للزيتون الصافي شرقة الضحكة، وصفاء الألفة، وذلك الرضا الذي يجعل من جلساتهن سكينة تعطر البيوت، وتعطي للحياة معنى.
حين أبكي يوماً أما مغادرة أو عجوزاً مودعة أو شائباً ترجل، إنما أبكي نفسي، وأبكي جيلاً لن يتكرر، جيل ما يزال يبكيني، لأنني أبكي البراءة والطيبة ورائحة البخور ودهن العود في حفيف ثياب نسائه، أبكي الحناء إن غاب عن أيدي بنات اليوم نهار العيد، أبكي الحشمة والمرحبانية وتلك الإشراقة على الوجه إن دقّ الباب ضيف، أبكي .. أبكي تلك القهوة إن زلّت زلّت في دلتين، واحدة للبيت، وواحدة لأعز الناس، أبكي لأن طبخت سلامه بنت بطي لا تنسى أن تطاعم بيوت أخرى ليست بحاجة لطعام، لكنها تحب أن يأتي خير من الناس، وتحب الناس أن يتواصلوا، ناس يحبونها وتحبهم، وتحب أن تصلهم وتوصلهم ولو بشق تمرة، ولو بنظرة من شق الباب، أبكي وقتاً لن يرجع وأناساً لا يتعوضون، وقت وأناس لو شرقت بقطرة ماء تجدهم يهللون ويصلّون على النبي ويترحمون ويدعون لك بالشكر والعافية.
سلامه بنت بطي غابت كحمامة بيضاء، ولم يمهلها قلبها الصافي كوجهها في أسبوع أن تودع من تحب، ولم يصدقوا هم أنهم يبكونها!


amood8@yahoo.com