هذه العبارة ليست لبدر شاكر السياب. إنها للشاعر توفيق صايغ (1923م ـ 1971م) في القصيدة الثالثة في مجموعته الشعرية “معلقة توفيق صايغ” يقول فيها: “مقعد/ ولا أهل لا بيت حَسْدا كسيح ولا مسيح” ويقول بدر شاكر السيّاب الذي كان مجايلاً لصايغ، في مرثيته للويس مكنيس: “كسيحٌ أنا اليوم كالميتين أنادي فتعوي ذئاب الصدى في القفار: كسيحْ كسيحٌ وما من مسيح” لأول وهلة تظهر مشابهة بين مقطع صايغ الشعري ومقطع السيّاب.. لكن التدقيق يظهر فروقاً أسلوبية وميثولوجية بين النصين.. الأدقّ ثيولوجية. فنصّ صايغ أكثر قرباً من الأصل التاريخي والثيولوجي للعبارة من خلال ذكره “بيت حَسْدا”، وهو أكثر انطلاقاً وحرية في العبارة عن تراجيديا المقعد بلا مسيح أو رجاء بالشفاء، ثم هو نصّ غير موزون، ومن حيث هو مرسل، فهو أكثر تنفساً وحرية في العبارة. مقطع السيّاب موزون على مجزوء المتقارب (فعولن)، وهو كسائر شعر السيّاب، مكسو بالصُورَ، وهو نصّ فيه استطراد وتقصٍّ، في حين أن نص صايغ أجرد عار ضارع وحده وكأنه تمثال من تماثيل جياكوميتي. لكنّ ما يجمع السيّاب إلى صايغ، خيط من اليأس الديني تجاه تراجيديا الجَسَد... فكلا الشاعرين كسيح، وكلا الشاعرين فاقد لمسيح المعجزة، الذي يُشفي الأكمه والأبرص والأعمى ويقول للكسيح قم فيقوم.. ويقول للميت انهض فينهض. والحال أنه إذا كانت تجربة بدر شاكر السيّاب الشعرية حظيت باهتمام نقدي ملموس في أدبيات النقد العربي الحديث والمعاصر، فإن تجربة توفيق صايغ الشعرية الخاصة والفريدة لم تحظ بمثل هذا الاهتمام.. بل هي لم تحظ بالاهتمام الذي تستحقه لتجربة خاصة في الشعر العربي الحديث، حادّة ومبكّرة ومعبّرة.. وهي في كل الأحوال تجربة مأساوية وتتحرك في ظروف مأساوية من حياة صاحبها وعلاقاته الثقافية والسياسية التي انعكست عليه وعلى نتاجه الشعري انعكاسات مؤثرة.. فصاحب مجلة “حوار” التي أقفلت بعد سنوات قليلة من حياتها من خلال اعتراف صاحبها الشجاع بأنها كانت تموّل من أجهزة المخابرات الأميركية، وأنه هو لم يكن يعرف ذلك، وأنه تكفيراً عن ذلك أعلن إقفالها من خلال مؤتمر صحفي، وصاحب “ثلاثون قصيدة” والقصيدة “ك”، والكركدنّ... ومعلقة توفيق صايغ... شاعر حياته وموته يشبهان شعره شبهاً كبيراً، وربما العكس صحيح. إنه شاعر صاحب لاهوت سلبي، ويلوح أنه شاعر بلا خلاص. بل لعله انتحر بشعره وهو يسخر من ذاته، الحب عنده والوطن كائنان مشوّهان. مات توفيق صايغ يوم الأحد في 3 يناير 1971 داخل المصعد وهو في طريقه إلى منزله في بيركلي من أعمال كاليفورنيا، في تمام العاشرة مساء. وكالة “يونايتد برس” نعته كشاعر عربي مرموق ومحاضر في جامعة كاليفورنيا ورئيس تحرير مجلة “حوار” سابقاً، وعزت وفاته لذبحة قلبية.