الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جماليات العمارة الطينية في أبوظبي

جماليات العمارة الطينية في أبوظبي
15 سبتمبر 2010 20:37
كان افتتاح قلعة الجاهلي في 3 ديسمبر 2008 تحت رعاية الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة بدولة الإمارات العربية المتحدة، حدثاً غير عادي على صعيد العناية الفائقة التي توليها هيئة أبوظبي للثقافة والتراث للعمارة الطينية في مدينة العين وإمارة أبوظبي بشكل عام، ولفت النظر الى أهمية هذه العمارة المظلومة على الصعيد الإعلامي على الأقل، التي مارسها العديد من الآباء والأجداد من مواطني مدينة العين بشكل خاص. كان ولا زال الطين هوية ذاتية للمكان، وبقيت للعمارة الطينية فتنة خاصة بها تنبع من علاقة حميمة بلاشك بالمكان.. المكان الذي يأسرنا، فيسري حبه.. يأسر جميع الحواس قبل أن يستولي عليها. هذه الفتنة البصرية كانت ولازالت محور فلسفة نوع خاص من العمارة سماها البعض “عمارة الفقراء” كان رائدها الأول المعماري المصري المعروف حسن فتحي. منذ عشرة آلاف سنة بنى الإنسان مساكنه ومعابده وقصوره من التراب والطين، فسور الصين العظيم شيد بمعظمه من الطين والتراب الخام، وفي القرن السابع قبل الميلاد بني بهذه المادة برج بابل كأول ناطحة سحاب بناها الانسان، وكذلك انتشر استعماله في حضارات بلاد الرافدين ومصر الفرعونية والحضارة الاسلامية والرومانية والهندية وحضارة الهنود الحمر والمكسيك وبلاد ما وراء النهر. ونلاحظ ذلك أيضاً في استمرار العمارة الطينية في اليمن والتي تميزت عماراتها بالارتفاعات الشاقولية لعدة طوابق، وفي انجلترا وألمانيا هناك الكثير من المنازل الريفية والمحطات والمدارس ودور البلديات وجميعها مبنية من الطين. إن ثلث سكان العالم يعيشون بمنازل من الطين. (أساتيد) الإمارات للعمارة الطينية في دولة الإمارات العربية المتحدة تاريخ ومكانة خاصة، حيث لا زالت القلاع والحصون ذات المنشأ والأساس الطيني شاهدة حية على تلك العمارة وجمالياتها، بل وحتى العديد من البيوت الطينية العادية التي سكنها أبناء الإمارات الى فترة سنوات الخمسينات والستينات، لازال بعضها قائماً كما علمت من بعض كبار السن في مدينة العين ممن عملوا كبنائين لبعض تلك البيوت، والتي ينبغي البحث عنها وإعادة ترميمها وصيانتها، بل وساهم هؤلاء البنائين (الأساتيد) من أبناء الإمارات في صيانة تلك القلاع والحصون، قبل أن تدخل العمارة الاسمنتية مجتمع الإمارات مع دخول البيوت الشعبية أو ما أُطلق عليها بالشعبيات في بدايات السبعينات. ومن المحزن الا نولي عناية خاصة لهذا النوع من العمارة، وندرك جمالياتها، والتي تعرف بأنها عمارة صديقة للبيئة مع إن دولة الإمارات أحرزت مواقع متقدمة في مجال حماية البيئة. ولكن السؤال المُلح الذي يطرح نفسه هنا وبلا مواربة: هل تم البحث عن هؤلاء الجنود المجهولين من المعماريين المحليين (الأساتيد) الذين يتوقون الى خدمة وطنهم الذي لم يبخل عليهم بشيء عندما فكرت العديد من الجهات المعنية بالتراث المعماري المحلي للاستفادة من خبراتهم على الأقل في صيانة العديد من القلاع والحصون القائمة والتي شارك البعض منهم في صيانتها وترميمها على مدى سنوات كما أخبرني بعضهم؟ وسأقدم هنا نموذجاً واحداً من هؤلاء الجنود المجهولين الذين أعرف شخصياً العديد منهم في مدينة العين. سألت أحد الآباء من المعماريين المحليين (الاساتيد) تجاوز عمره الخامسة والثمانين عاماً أطال الله في عمره، من الذين قضوا شطرا كبيرا من حياتهم في بناء بيوت الطين في العين عن قلة بيوت الطين اليوم فعلق قائلاً: “إن الناس تعودت على بناء بيوت السميت (الاسمنت)، ربما لأنه أقوى من الطين بنظرهم وهذا مب صحيح وأيضاً فشرة (مظهر)، نحن ربينا وعشنا على بيوت الطين، وكان اللي عنده بيت طين الأول في العين هو وما فوقه فوق (أي أنها كانت تعتبر شيء من مظاهر الغنى والترف)، بيت زايد العود هذا اللي في النخل (متحف قصر العين اليوم) بيت طين، ويوم حياة الشيخ زايد تزوج الشيخة فاطمة بنى بيت طين من دورين البيت اللي في قصيدة (منطقة في العين)، والقلعة المبناية أيام والد الشيخ زايد الشيخ سلطان بن زايد الأول” (وتسمى الحصن الشرقي). الحصن الشرقي تم بناء الحصن الشرقي أو قلعة الشيخ سلطان المجاور لمتحف العين الوطني في عام 1910. وقد لعبت الأبراج المشيدة على زواياه الثلاث دوراً هاماً في حمايته والدفاع عنه. كما كان يحتوي على غرف لتخزين القمح والتمور. ويتميز الحصن بتباين جميل بين غرف الاستقبال الرسمية المعروفة باسم “المجلس” المخصصة لاستقبال الزوار، وبين كوخ البراستي أو العريش الكائن في الفناء والذي يشكل نموذج السكن المتواضع والمألوف أكثر لدى العائلات البسيطة. يقول محدثي: “اللي الحين فيها متحف العين أيضاً مبناية من طين ولازالت قائمة إلى اليوم. المدر (الطين) متوفر في العين تحصله موجود في النخل ومثل ما انت شايف كل القلاع والحصون مبناية من مدر المويجعي والجاهلي لكن عاد وين اللي يقدر قيمته اليوم؟!”. ويضيف: “كنت أعمل بناي غيلة (بناء) هذه قلعة المربعة” قلعة المربعة تم بناء القلعة في عام 1948 وسط مدينة العين. وقد سُميت بقلعة المربعة بسبب البرج الكبير مستطيل الشكل المكوّن من ثلاثة طوابق الذي يتوسط فنائها الواسع المحاط بسور قصير. أما الجدران التي تحيط بجميع جوانب القلعة فكانت تؤمن حمايتها، فيما كانت القلعة تشكل مركز تجمع لسكان المدينة، حيث كانت تُقام فيها الأعراس والمناسبات الدينية واللقاءات الرسمية للقادة المحليين. كما استخدمت القلعة في فترة من الفترات كسجن. وفي أحد أطراف البرج الرئيسي، تمت إعادة بناء كوخ براستي المصنوع من سعف وأغصان النخيل. يقول الشيخ الجليل: “قلعة المربعة في العين اللي تشوفها أنا شاركت في بنائها وياي ربع وكلهم أساتيد، كلنا عملنا في بناء قلعة المربعة في العين بنيناها من طين، نضرب لبن في الأرض وعقب ما ييبس نبني به، اللبن من الغيلة ونحط له تبن نخلطه، وكنا نحفر في نفس المكان ونأخذ الغيلة منها (الطين)، كلما حفرت أكثر تجد مدره (طينه) شرا اللبان (كالعلكة) ونضرب طابوق ونبني به، ويبنا المعاريض والدعون نسقف بهن من النخل، من نخل العين ومن نخل الجيمي ومن نخل القطارة ولازالت موجودة فيها إلى اليوم، وبنينا فيها اظني أربعة أدوار أو خمسة أدوار، وكنا نحط فوق الدعون ليف وفوق الليف المدر مخمرينة هذا المدر (الطين) نسميه خميرة، والبناء بقي قوياً لا يقطر يضربها المطر ولا يؤثر فيها شيء وهذي بعدها عايشة إلى اليوم”. ويتابع: “من الأول كانت مبناية لتكون مقراً للشرطة في العين، أخذنا في بنائها شهورا، بس من طين ولبن ودعون وليف غير مخلوطة فيها لا جص ولا حصى ولا أي حاجة”. وحين سألته عن إمكانية بناء بيت طيني اليوم في العين قال: “أنا شخصياً أستطيع بناء بيت طين اليوم، إلا خانتني اليوم الريول والظهر، أقول أقدر لأني مارست هذا النوع من البناء بنفسي، أنا قبل بنيت لي بيت طين حق نفسي وعشت به وعاشت عائلتي، أنا بروحي بنيت بيوت طين لليوم موجودات، لو تقول مية بيت بعد منهن موجودات بعدهن محد هدمهن”. خواص الطين ولو سألنا المعماريين.. لماذا الإصرار على الطين لبناء منازل الزمن الجميل، لقالوا: قبل الإجابة لابد أن نعرف ما هو هذا الطين.. يشير المهندس صالح عبدالله الى أن الطين أساساً ناتج عن تحلل الصخور النارية، وهو لذلك مركَّب من دقائق صغيرة متبلورة من سيلكا الألمنيوم، ومن خواصِّه الطبيعية اللزوجة عند إضافة الماء إليه، أما لون الطين فيعتمد على المركبات المعدنية التي فيه؛ ولذا نراه يتدرج من الأبيض الفاتح إلى البني الغامق، ويبلغ وزن الطين ما بين 1400 إلى 1800 جرام في المتر المربع حسب درجة التماسك. ويتابع المهندس صالح تعريفه بخواص الطين فيقول: إنه من أفضل المواد العازلة للحرارة ويتكون النقي منه أو ما يطلق عليه الصلصال من حوالي 46.5 % من سيلكا الألمنيوم (ثاني أكسيد السيلكون)، و39.5 % من ثلاثي أكسيد الألمنيوم، بالإضافة إلى حوالي 14% من الماء، فهو تشكيل معقد من السيلكون والألمنيوم والهيدروجين. ويشير المعماري اليمني سالم خميس الى الخواص التي تميز العمارة الطينية عن الإسمنتية فيقول: عرف الإنسان مميزات الطين، فحافظ على استعماله ليس في اليمن فقط ولكن في العديد من دول العالم، إذ أثبتت الإحصائيات أن أكثر من مليار من البشر يستعملون العمارة الطينية؛ لأن الجدران الطينية تعتبر عازلاً جيداً للحرارة والبرودة، فلا تسمح بسرعة انتقالها من غرفة إلى غرفة، كما أن هناك سهولة في التعامل مع الطين أثناء البناء فيسهل تشكيله وزخرفته بما يتناسب مع قيمنا الإسلامية في المعمار. ويُلفت الدكتور سالم محمد مبارك النظر إلى البُعْد النفسي للبيوت الطينية فيقول: إن الطين له تأثير نفسي إيجابي على الإنسان ربما لأنه نشأ من الطين وسوف يعود إليه تارة أخرى. مبدأ حسن فتحي كما يعتبر المعماري المصري حسن فتحي أحد المعماريين القلائل الذين أسسوا مدرستهم الخاصة المرتبطة بالأرض والثقافة ومن أعماله قرية “القرنة الجديدة” بناها من الطين فتجاوبت مع بيئة الصحراء الحارة وقد لقب بمعمار الفقراء وهو القائل: “عندما يبني الإنسان بالمشاركة مع جيرانه تتم عملية تبادل المنطقة الرائعة جهداً وخبرة” ويؤكد: “لا شك أن رجلاً واحداً لا يستطيع أن يبني بيته ولكن يستطيع عشرة رجال لو تعاونوا بناء عشرة بيوت ومع الوقت ستكتمل القرية وتعيش. وهكذا بنيت قرية القرنة ثم قرية باريس بعدها”. وهذا المبدأ الذي تحدث عنه حسن فتحي طبقه في الحقيقة الإنسان الإماراتي قديماً في بناء بيوت الطين وهو ما يُعرف محلياً بمبدأ (الفَزْعَة) وهو أن (يفزع) أي يُبادر الجار الى مد يد المساعدة دون ان يُطلب منه ذلك سواء في البناء أو في درء خطر قادم او محدق ما لا سمح الله وهو مبدأ ينم عن روح التكافل الاجتماعي الذي كان ولا زال يميز مجتمع الإمارات. فإن الروح الجماعية تصل ذروتها في عمائر الطين حيث يشارك الجميع في إقامة صروحها وهم ينشدون معاً لحن الحياة، اذ تعلمت هذه الأيادي أن تشارك معاً لتبني السكن والمستوصف والمدرسة.. والحب ناشرين في المادة منطقية النهوض الشامل في عمارة تجسد الروح والثقافة والأمل. وجميع المحاولات الإنسانية، ومنها المعمارية، عليها ألا تهمل التوازن “انسان ـ جماعة” والغنى المنشود سيتم مع عطاء كل الحضارات معاً فالبقاء على هذا الكوكب يحتاج الجماعية الإنسانية كإحدى الوسائل الجبارة للإنقاذ.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©