لا يحتاج الإبداع إلى ثرثرة كثيرة، ولا يحتاج المبدع إلى ترسانة أدوات يحشو بها فيلمه أو كتابته أو أغنيته كي تصل إلى قلوب الناس أو إلى عقولهم، لا نحتاج إلى أكثر من الصدق والفهم والذكاء، هذه الأدوات تختصر آلافاً من صفحات القراءة، وعشرات الساعات من المشاهدة، وفي كل الأحوال والأزمنة كانت الكلمة ولم تزل هي الأقوى، فبكلمة سقطت أنظمة وبكلمة تغير تاريخ أمة، وبكلمة تفككت أسر وضاع أناس كثيرون، بكلمة يتغير مستقبل شاب كان على شفا حفرة من اليأس، وبكلمة نغير حياتنا ونغير العالم، المهم أن نعرف متى نقولها وكيف.
شاهدت منذ مدة فيلماً قصيراً جداً، لم يتجاوز الدقيقة ونصف الدقيقة، خال من أبطال السينما والسيناريو وحبكات الحوار ولوازم الديكور والإضاءة، فضاؤه أحد الميادين الكبيرة جداً كتلك التي تنتشر عادة في بلدان أوروبا، وعلى أحد الأعمدة اتكأ رجل كهل افترش الأرض، واضعاً علبة صفيح صغيرة أمامه وقطعة ورق مقوى كتب عليها “لا أستطيع أن أرى” وكان المارة يعبرون المكان وقد يصادف أن ينتبه أحدهم فيقذف بقطعة نقود متواضعة سرعان ما يتلمس الرجل المكان ليعثر عليها ويضعها في العلبة، وفجأة تلوح فتاة شابة تسرع الخطى باتجاه هدفها، لكنها حين تمر بجانب الرجل تسير بضع خطوات ثم تعود إلى حيث يجلس، وتجلس أمامه مباشرة !!
تكتشف أنه أعمى، وتقرأ تلك الورقة، لا تضع شيئاً في العلبة، لكنها تمسك بالورقة وتخرج قلماً وتكتب مضيفة العبارة التالية “ إنه يوم جميل جداً، لكنني لا أستطيع أن أراه معكم “ تضع الورقة بجانبه وتمضي في طريقها، بعد بضع دقائق تجود أيادي المارة بإلقاء الكثير من النقود أمام الرجل، ومع نهاية النهار تعود الفتاة فيتلمس الرجل حذاءها كما فعل في المرة الأولى فيعرفها وعندما يسألها ماذا فعلت تقول له : لقد غيرت لك الكلمات على الورقة لا أكثر !! يشكرها بصدق فتمضى هي برضا وطمأنينة.
نحتاج كثيراً لأن نغير كلماتنا وطريقة نطقها أحياناً، كي تتغير علاقاتنا ونظرتنا للحياة وللأشخاص وللكون كله، فليس صحيحاً أن ما تربينا عليه وما تعودنا عليه هو الحق المطلق وهو الحقيقة الوحيدة، ليس صحيحاً أننا ملاك الحقيقة الوحيدون في هذا العالم، وحين لا يتمكن أحد من مواجهتنا بحقيقة جلافتنا أو نقائصنا، فقد يكون السبب تلك القسوة التي لا نتنازل عنها وقد يكون السبب انهم يحبوننا إلى درجة أنهم لا يريدون جرح مشاعرنا بينما نمعن نحن في جرح مشاعر الآخرين وكأن الأمر عادي تماماً.
تلك الشابة الصغيرة لم تفعل أكثر من تغيير الجملة، فبدل «لا أستطيع أن أرى» حولتها إلى «هذا النهار جميل جدا لكنني لا أستطيع أن أراه معكم» فصار لها وقع مختلف وتأثير مختلف وإيحاء مختلف أيضاً، فقد أخرجت الرجل من موقع المتسول الذي قد يستفز في الناس مشاعر العطاء بالإكراه في كثير من الأحيان، إلى موقع الرجل المرهف الذي يشاطر الآخرين شعورهم بالجمال لكنه محروم منه كونه أعمى، فاكتسب تعاطفهم بلمح البصر مع انه هو نفسه لم يتغير، الكلمة هي التي تغيرت .. وغيّرت.


ayya-222@hotmail.com