يعني بالعامي بعض الطيور يوم تشبع تقوم وتربي شحمة في صدرها، وتثقل لكنها تطير فجأة تاركة صاحبها وتلواحه وعشرته، وهذاك سيرها، وما يرد الطير لو أن الواحد مربيه، بعض الناس طبعهم أن يكونوا مغردين خارج السرب، ولو كان تغريداً محموداً وجميلاً لما عبنا ذلك بل رحبنا وساندنا وأعنّا بما نقدر عليه، لكنه غناء الجاهل والمنتفخ هواء، والمتحين ليغنم من فرصة، والمتربص بجاره وأهله من كل غفلة، مثل هؤلاء الناس - رغم أنهم قلة ولا يمثلون صوتاً جمعيّاً- هم من يربون تلك الشحمة في صدورهم إما شبعاً وإما تنكراً لجميل، وصنعاً لمعروف، وبعضهم يربي تلك الشحمة التي في الصدر حقداً وضغينة ومن أجل الزهو بالنفس، وإرضاء غرورها وطلب شبعها اللامحدود، حتى لا يقدر على التنفس إلا بصوت عال بغيض.
إن التعامل مع مثل هؤلاء الناس يجب أن يكون بالحكمة التي لا يغلبها اللين، ولا يسيرها الغضب، وبمنطق الوقت، ومفاتيح لغته، وضروريات مستجداته، ولا نفزع من قول آت من جاهل أو متفيقه أو باغض، لأن رصاص المتكلم لا يصيب هدفاً، وكلام الفاعل هو قاتل، لذا علينا أن لا ننجر إلى الساحة التي يختارها هؤلاء المرجفون بقضنا وقضيضنا، بعاقلنا وجاهلنا، وغير المتعلم فينا، والمتعصب منا، ونجعلهم يقاتلون عنا، ويحلّون بدلنا، فهؤلاء مصيرهم إما الهزيمة أو اشتعال الفتيل، وحكمة كتاب “فن الحرب” الصيني القديم يطلب من الذي يريد النصر أن يختار المكان، ويحدد الزمان، ويعرف العدو، ثم يرسل من يقدر على هزيمته، ولأن الحكمة عادة ما تزداد تجوهراً مع الوقت علينا أن لا ننسى ما سطر الأولون، لأنهم كانوا يتحدثون من غبار الميدان، ونحن اليوم نحارب في غرف مشيدة.
لكنني أتساءل اليوم.. هل يمكن أن تفيد السياسات القديمة في حل المعضلات الجديدة؟ هل يمكن أن يصلح نصل السيف مع شخص يمكن أن يموت إن أغلقت عنه نوافذ التواصل، وقوة المعرفة؟ هل تنفع الأصوات العالية الغاضبة الهادرة مع شخص يمكن أن يغرقك بسلسلة من الأكاذيب يرسلها مصدقة وهادئة ومتظلمة وعابرة وتصل للقريب والبعيد؟ هل تنجح العين الحمراء وحدها في وقت كل العيون الأخرى مفتوحة عليك، ويمكن أن تشاهدك من بعيد، ومن سقف سمائك المفتوح؟ لو تركنا غير المدركين لعواقب ونتائج الأمور تأخذهم الحماسة، ويقدمون حلولهم غير الناجعة في مواجهة عصرية، وحديثة، فيظهر بينهم من يقول، مقدماً البتر، والكي، وشجاعة في غير وقتها، ولمن لا يستحقها: “أدغشه أباطه.. أو أزرقه من عليباه.. أو هبّه من ضبعه.. أو خمّه من قمة رأسه” لكنها اليوم غير مجدية مع أشباح رقمية إن لم يسبقها رجاحة عقل، وحكمة بصيرة، وبعد نظر!


amood8@yahoo.com