تحولت أم خالد إلي بيتٍ جديد وقامت بعملٍ جبار تلخص في حملة تنظيف مكثفة شملت ثقوباً وزوايا لاتُرى بالعين المجردة، وقامت بنقل الأغراض فحملت الخفيف والثقيل متناسيةً للدسك الذي هو جزء من كيانها، وقامت بتسليك أنابيب المياة “المْجْيّـمَات”، واختراعت منافذ جديدة لنُقَاطِ الكهرباء فقلصت من تصورنا مشاهدٍ مثيرة لثعابين الأسلاك، وزينت الغرف بمقتنيات حملتها القلوب والذكريات والصدف، فجادت لمساتها بما فاق تصورنا. وعندما وطأة قدمي منزلها بعد فراق طال قُصره، لاطفتها قائلة: “عساه بيتٍ عامر بأهله، الله يعطيكم خيره ويكفيكم شره وشر ما في الغيب” فردت باحتواء “يامرحباً بكم من ملفاكم لي ميفاكم، مرحباً الساع مرحباً”. لقد تركت كلماتها عبيراً لمس روحي. ??? الشاعرة ميثاء الهاملي غنية عن التعريف، عندما التقينا في ورشة عمل لِتَدرِيِبِ نخبة واعدة من جيل سيصون تراث الوطن أُعجبت بهدوئها ودماثة خلقها فهي مثالٌ حي لاستدامة تلك المكتسبات، فـدْلاَّل قهوتها “المكندة”، والقرص المتماشي مع متطلبات الريجيم، وطاسة التمر لم تفارق أيام التدريب ولم يفارق المتدربون زاوية تواجدها. وفي اليوم الأخير مدت يدها نحوي بديوانٍ حوى أشعارها وقالت “دكتورة، يشرفني أن أهديك ديواني”. فسقطت في تلك اللحظة من قاموسي جميع الكلمات؛ فقلت لنفسي: يال رهافة الحس، كلماتٌ فتاكة تدل على رجاحة عقل صاحبتها وقد تركت عبيرًا لمس روحي. ??? في ضجة سوق السمك لمحت طيفه من بعيد وعندما اقترب، تهرب اسمه من طرف لساني إلى وادي يكثر به التحدي والإصرار على التذكر. وسمعته مُستَظرفاً بائع السمك: الشعري غالي اليوم، مهر زوجتي أقل من سعره! ولأنني لم أتذكر اسمه تسللت بين البشر في محاولة آمل أعود بعدها لتحيته مع ذِكـرِ اسمه. ونسيت أمره عندما نُدِتُ لشراء”الجش” و“السجل” والكنعد” و“الكباب” و“العنفوز” و“الغزال” وتماديتُ فسرحت وأنا أنتظر تقطيع ما اشتريت من حيتان، وفجأة سمعت صوته “السلام عليكم ورحمة الله وبركاته” فرديت التحية “وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. كيف حالك “أخويه سليمان”، بشرني عنك وعن الأهل عساكم بخير؟” فقال “الحمد لله كلنا بخير ونعمة، اسمحوا لي ما أييكم من عقب الوالدة ما أروم أحَدّر بيتكم”. وطأطأ رأسه حتى قفزت دموعي في غير محلها وقلت لنفسي: امور الدنيا لا تعتمد على ما نسينا ولكنها تتكئ على ما لا نتوقع، وللذكريات عبيرٌ يلمس الوجدان. ??? وقبل رحلة قصيرة أطال عمرها طموحات مستضيفينا في الدوحة قمت بالتدريب على ما سأعرضه فأرشدتني صديقة عتيقة بقولها: عَرِفِـي الموضوع لمستمعيك ولا تفترضي إلمامهم بما ستطرحين. فلمس عبير كلماتها قلبي وذكرني بمقولة أحد الحكماء: “لا يزال المرءُ عالماً ما طَلَبَ العِلْم، فإذا ظنَّ أنه عَلِم فقد جَهِل” وصغرت نفسي عندما كبر تواضعي. ??? وفي مطار العاصمة رحبت بي رائحة يشرئب لها الوجد ويستريح على خصرها الحنين والشوق؛ فَتَنَهدتُ بزفرةٍ يذوب لها العاشق في حضرةِ مُتَيّمِهِ وهَمَسْتُ في اُذِنِ الضميرِ الحاضرِ بصوتٍ شربكت تَفَاصِيِلهِ الشجون “آه مـا أغــلــى بــلادي”. bilkhair@hotmail.com