على شاشة القناة المصرية الأولى يعرض برنامج اجتماعي يقدمه أربعة من الشباب، وكانت حلقة أمس تدور حول الفساد، حيث يكثر الحديث في مصر هذه الأيام عن تطلع الجماهير إلى حقبة جديدة ونظام مختلف يريدونه نزيهاً وخالياً من الفساد تماماً، فقد ذاقوا الأمرين من الفساد والمفسدين والفاسدين، وبلا شك فإن من حق الشعب المصري بجميع شرائحه وانتماءاته أن يحلم بالأفضل وبما يحقق مصالحه، وهو بحسه الحضاري وخبرته التاريخية مع حكامه يعلم أن الفساد مهلكة حقيقية، وأنه السبب فيما آل إليه أمر مصر العظيمة، ولذلك فالمصريون جميعهم يريدون إسقاط إمبراطورية الفساد.
إن الثورات العظيمة تبيح الأحلام الكبيرة، فعلى قدر الثورات تأتي الأحلام، ويبقى السؤال مشرعاً من أجل الفهم والحرص: هل يمكن أن يتغير المجتمع بمجرد الرغبة في التغيير؟ وابتداء هل تتغير المجتمعات بسهولة؟ وقبل كل ذلك: من أين يبدأ التغيير، ومن هو صاحب قرار الإصلاح؟ ولنتذكر دائماً “... إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ....”.
طرح البرنامج أمثلة لا حصر لها حول مظاهر الفساد، فالفساد ليس رسمياً، والفساد لا تصنعه الحكومات فقط، ويستفيد منه الناس العاديون أحياناً - كما المتنفذون - بل ويتولون حراسته في أحيان كثيرة وذلك بالدفاع عن رموزه والتجاوب مع متطلباته، بمعنى أن الشاب الذي يذهب لتخليص معاملة من الممكن أن تنهيها الموظفة في أقل من دقيقة، فتتلكأ وتخترع أسبابا واهية لتعطيلها بهدف الحصول على مبلغ معين يجعلها “تسلك” الأمر وتغض الطرف سريعاً عن أي شيء، فإن دفع الشاب المال للموظفة فهو فاسد، لكنه إذا لم يدفع فسيدور في حلقة مفرغة من الإجراءات والمشاوير وضياع الوقت وسينتهي عند الموظفة نفسها وسيضطر للدفع أخيراً، إذن فليأخذ الموضوع من أقصر وأسهل الطرق وليدفع، طالما أن الكل يدفع، هكذا سيقول الشاب كي يهون الأمر على نفسه ولكي يبرره أيضاً!!
لنسأل الآن بموضوعية، أليست هذه هي الحقيقة ؟ ليس تبريراً للفساد ولكن مساءلة للواقع، لأننا إذا اعترفنا بأن هذا هو الواقع فإننا سنحاكم هذا الواقع ونسائله: كيف ولماذا وصل الأمر لهذا المستوى؟ وهذا هو بيت القصيد: البحث عن أسباب الخلل!!
عرّفت منظمة الشفافية الدولية الفساد بأنه “كل عمل يتضمن سوء استخدام المنصب العام لتحقيق مصلحة خاصة ذاتية لنفسه أو جماعته”، وبشكل عام وبالنتيجة فإن الفساد يؤدي حتماً إلى إلحاق الضرر بالمصلحة العامة، لأنه عندما يحتكم الناس في تسيير أمورهم ومعاملاتهم وشؤون حياتهم إلى آليات فاسدة، مثل الرشوة والمحسوبية والواسطة، يصير نهب المال العام متاحاً تحت غطاءات مختلفة، والابتزاز قانوناً قائماً بحد ذاته، ويتحول الفساد إلى ظاهرة تتجاوز قدرة الفرد على إصلاحها، أوالصمود أمام توحشها، لأنه خرج من كونه مجرد حالة يمكن محاصرتها وتجفيف منابعها في الشركة الفلانية أو مكتب الموظفة العلانية.
حين يتحول الفساد إلى واقع حال، وإفراز مجتمع ترشح مؤسساته بالفاسدين والمتربحين ومستغلي المناصب والقرابات وناهبي المال العام وكثير من هذا وأكثر، عندها تصير الثورة احتياجاً وصيرورة وناموساً كونياً يقود إلى اجتثاث كل شيء لتطهير كل الأرض من أجل مصلحة الإنسان، التي لا تستقيم إلا بإعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي.



ayya-222@hotmail.com