بداية.. ولأعطي صاحب الأمر حقه، فهذا العنوان المكتوب أعلاه مقترح من الكاتبة المميزة الأستاذة عائشة سلطان، أو كما أحب أن ألقبها “بطلتي” لأنها كذلك؛ وقد اقترحت علي -أثناء حديثنا في إجازتي خلال الأسبوعين الماضيين في أوروبا الوسطى- كتابة عمود يحمل هذا العنوان. ورغم عدم اعتيادي الكتابة عن المدن التي أزورها إلا عرضا، إلا أني أغرمت بالعنوان دون الالتزام بالكتابة عن “براغ” عاصمة جمهورية التشيك، وذلك لقناعتي أنه يحق للكاتب ما لا يحق لغيره!
تبدو الكتابة عن المكان مرهقة، فإن تُصدر مشاعرك حول تفاصيل جغرافية وثقافية تمر بها أثناء رحلة سياحية، فن -استنزافي- عظيم لا أملك القدرة على الإتيان به؛ ليس لضعف الأمكنة في قدرتها على إدهاشي، بل لكون طاقتي تتوقف حد الاحتفاظ بدهشتي في صور أصر خلالها على رفع أصابعي بعلامة النصر -برفع الوسطى والسبابة- كطريقة مبتكرة أحتفظ فيها بألق اللحظة وتوهج المكان فيني.. رغم كل هزائمي.
كانت إجازتي محاولة -فاشلة- للانفصال عن الواقع، الواقع بكل تفاصيله المزدحمة في مشاكل العمل والأسرة وتوتر الواقع العربي واختلاط العام بالخاص، كل تلك الفوضى جعلتني أبحث عن منفذ أستطيع من خلاله التنفس ملء قفصي الصدري؛ ولكن ما حدث أني تنفست نفسي فامتلأت بصحبة صديقة جميلة لديها رغبة لا متناهية في معرفة كل شيئ.
رؤية كل شيء وتذوق كل شيء، صحبة معجونة بصخب وبهجة الحياة؛ تنام على صوت مذيعي قناة الجزيرة، وتسأل كل صباح -حتى قبل أن تفتح عينيها-.. هل رحل القذافي؟ ماذا فعل صالح؟.. هناك من البشر أشخاص عندما تعاشرهم ترى كل شيء حولهم يتراقص.. كانت سلوى -كاسمها- من هذا النوع الذي يسلي نفسك ويبهجها حتى وأنت في حضيض الواقع.

???

نحتاج سنوات طويلة من التأمل بعناية لنتمكن من معرفة وكنه مشاعرنا الحقيقية تجاه الأشياء؛ كلنا نعتقد أننا ندرك تماما مشاعرنا، أو على الأقل نعلم تماماً ماهيتها، موجهة لمن ولماذا؛ ولكن تجارب الحياة تهدينا بعد عناء طويل الحقيقة الغائبة، والتي نظل ندور حولها دون أن نقبض عليها. مثلاً.. كنت على قناعة تامة أني أعشق البرد، ولكن ما اكتشفت أني مغرمة بلحظة الدفء التي تجتاح كياني أثناء حالة البرد.
أما الحقيقة التي استدركتها مؤخراً، أن الدفء الذي يجتاحني يجب أن تكون له مواصفات خاصة؛ فهو مزيج من حنان أمي وأبي وضحكات إخوتي ومشاغبات صديقاتي و... و الكثير من التفاصيل التي يجب أن تكون محيطة بي أثناء لحظة الدفء التي تطرد البرد الذي اعتقدت طويلاً أني أعشقه!
كم من الأشياء في حياتنا نعتقدها بل ونوقن بها، فيما أننا لا نملك من حقيقتها شيئاً يذكر، ولنكتشفها فالأمر يحتاج الكثير والكثير جداً من الجهد في قراءة النفس وتجاربها بين البعد والقرب والتفكيك والربط، لنفهم بالفعل كِنهها؛ هذا اكتشاف خاص، اكتشفته هناك.. تحت سماء “براغ”.


Als.almenhaly@admedia.ae