«إنني لا استطيع أن أفسر لك كل ألغاز الخليقة: فما الحل الأوحد لكل الألغاز سوى الحب»! جلال الدين الرومي رتيبة أيامك.. يأتي الليل ويعقبه النهار.. يأتي النهار ويعقبه الليل.. تمر ساعات العمر وأيامه وأنت سادر في الرتابة وفي الملل.. رماد يغطي خطواتك ورغباتك وأمانيك.. كل ما حولك رمادي، رمادي.. تغيم الألوان كلها في الرماد.. الرماد محايد وبارد. أنت محايد وبارد.. الانفعالات فاترة في حدود الفطرة النائمة.. تنهض إلى عملك دون رغبة في النهوض.. تؤدي عملك دون حماس وبهجة.. تسير مسيرّا نحو التزاماتك البشرية.. تعمل، تتفق، تأتلف، ترضخ، تتبع، تقبل تساير، تسكت، تكبت، ترضى، تقتنع. عليك أن تكون كل هذا كي تكون إنساناً سوياً! لأنك دون بعض هذا تكون إنساناً عصابياً، خارجاً، نافراً، غريباً، ولك نعوت لا يرضى عنها المجتمع ولا علم النفس! تمارس كل هذه الأفعال التي يدعونها شروط الحياة، وادعوها شروط العيش، المسافة بين العيش والحياة هي المسافة بين الملل والبهجة.. بين الوجوم والغبطة. بين المحدود والمتسع.. بين الانطفاء والتألق.. بين الثابت والمتجدد. بين القيد والحرية. فإذا كنت تعيش على الضفة الأولى فإنك ساكن في خيمة الكآبة، وإن روحك تتوق إلى الحياة على الضفة الثانية، حيث مسكنك الفرح والنشوة. طعامك فاكهة الروح وخبز الجسد، ومشربك الكروم غطاؤك الفضاء الرحب، وسياجك الورد، وحدود بيتك السعة واللانهائي. نهارك نور الحب إذ يغمر القلب، وليلك همس الهوى حيث يطيب الهمس. إذا كنت ساكناً في خيمة الكآبة فإن كل أدوية الكآبة لن تنفعك. لأنك كالمجدّف في مستنقع طيني. وما لك من شفاء إلاّ الحضور في جلال الحب. يكتب النقاد عن أدب الحب. وينظر المنظرون في شؤون الحب. ويتفلسف الفلاسفة بشأن كنهه وأسراره ومغزاه ومشاكله. ويحلل المحللون النفسيون أسبابه ودوافعه. وينظم الشعراء قصائدهم في وصفه وتبجيله، ويرصد المجتمع أعرافه وتقاليده، ويقيم أسجية ومتاريس، يبيح ويمنع ويعاقب ويكافئ.. ويتهامس الناس فيما بينهم عنه.. الكل يخوض في المياه الضحلة للحب. وهو بسيط كالبحر في امتداده، ومحيط كالبحر في أهواله، وعميق كاللجة في غيبها، لا يدرك مداها ولا يسبر غورها إلاّ من وقع فيها. ومن يقع فيها لا يمكنه النطق، بل يصمت صمت العارف الغارق المأسور. والحب كالموت لا يمكنك أن تصفه حين أنت فيه، وحين تتوهم القدرة على وصفه يكون هو قد مات فيك. ألا أنك في الموت مفقود، وفي الحب مولود وموجود. وأنت حين تكون في الحب فأن كل فعل من أفعالك يصدر عن عقل وقلب محب. تضحك وتبكي، تنام وتصحو، تأكل وتشرب، ترى نفسك ومن حولك، ترى البعيد والقريب، ترى الحياة والوجود، الظواهر والكون، الماضي والحاضر والمستقبل ببصيرة المحب ومنظار الحب. وحين تكون في الحب فإنك لا ترى إلاّ الأمل والأمل والأمل. كأن الخليقة تبدأ بك. كأنها تمتد بلا انتهاء. وقلبك لا يعرف اليأس، ولا عقلك قادر حتى على تفسير يأس الآخرين. وحين تسير شأن الناس في الطرقات فإنك تتهادى بخفة، والأرض تحتك من قطن وزعفران. وكل يوم يمر عليك يضيف إلى عمرك عمرا، لأنك تستشعر القوة والعافية والحكمة والمعرفة. وإذا كان الحب لجة تُغرق فإن من غريب أمره أنه نجاة من الغرق، ومن الموت في الحياة. hamdahkhamis@yahoo.com