الفِكر البشري لاحق على عمل الناس على الأرض، فمُنذ مُكتشف -أو مكتشفي- النار الأول بأية صدفة كانت، وما تلا ذلك من استخدامها لإنضاج الني من اللحم والنبات وغيرهما، وتقنين التعامل مع خطورتها. وبها، بالنار، تم استكشاف كل ظلام لا تدخله الشمس، ويستوعبه الليل، لأن الليل لإسكان الحياة برهةً، تحضيراً لإنفاقها نهاراً؛ من أجلِ درأ الظلام كرافض للجَمال والحرية على أنهما من صُنع تنظيم الأمور، في حين أنهما من الأسس الحقوقية لممارسة الوجود –ولو فوضوياً - بلا حَدٍ مكاني، أو زماني، أو فِقهي؛ سياسياً كان أم دينياً. منذ مُكتشف النار الأول؛ نرى أن عمل النار صار من عمل الروح، بالمعنى الرمزي الذي يجمع بين الإثنين، ألا وهو طهو ما يؤكل عن طريق الفم، أو القلب، ففي ذلك ما يطور سمات الحياة المُفَكِّرة. وإذا تَبَصَّرنا أن اكتشاف النار كان بمثابة إعلان عن بداية وضع أسس العقل الأول، نظراً لما تَبِعَ ذلك من خَلق النار لمحددات جديدة للتعامل مع المحيط الصغير للحياة الأولى، والذي أدى بالضرورة إلى اتساعٍ مضطرد لكل مُكْتَسَبٍ دعت له الصدفة كما الحاجة. إذا تبصرنا ذلك، فعلينا أن نقول أنه كما اكتشف الأوائل النار وطاردوا بها حلاوة الحياة لإزادة حلاوتها، فإن مطاردة عكسية تأخذنا بالضرورة إلى الرجوع؛ والتعرف على الملف الذهني الأول لمجتمع ما قبل تعقيد الوجود على الكرة الأرضية. فالحَفر المستمر حديثاً لإدراك ما كنا عليه عند النقطة ما قبل الصفر بمراحل، من شأنها أن تساهم دائماً في إرجاع أي تضخمٍ إلى أصول ما قبل إنشاء مشروعه، حتى تستكين لنا الأفكار من أجل تعديل ما نحن بحاجة إلى تعديله. فعَربياً على الأقل؛ يمكننا اعتبار حرق التونسي “البوعزيزي” لنفسه، اكتشافاً يشبه الاكتشاف الأول للنار، إنما على أرضيةِ مَلَفٍ مُتَقَدِّمٍ من الخسارات الحقوقية للعيش، ومن الرغبة في تنبيه كل سُلطة فهمت السُلطة على أنها انفصال عما دونها. فهذا النوع الاشتراطي من الحرق، هو محاولة تطهير الذات من أعبائها، لمَن يحرق نفسه، ومَن ما يزال على قائمة الحياة بعد. النار هنا ليست رديفاً لكل طرق الانتحار الأخرى، بقدر ما هي بوتقة لصهر عناصر المجتمع في لحظة واحدة، وذلك لعلانيتها المحددة في الشكل المهرجاني. ومن هنا قد يُعاد ضبط العقل لصالح الأولويات الغريزية، لأن الغريزة هنا؛ هي هذا المكون الحاكم لإشباع الحياة بالحياة لصالح كل مستويات الحضور والممارسات الاجتماعية، من قاعدة الهرم إلى أعلاه وليس العكس. فكما أنضج الإنسان الأول طعامه بالنار، وعاد عليه باختلافٍ في التفكير، أعاد “البوعزيزي” بصُدفة الاستجابة الشعبية لحادثته؛ ضرورة التخلص من التلقي الجبري لأي إشكاليات أو تَبعاتٍ تاريخية؛ على أنها وريث شرعي لطريقتنا في تنظيم مجتمعاتنا. كما التخلص من عدم الالتجاء إلى الشعب والمفكرين ورؤاهم التحليلية، وقدرتهم الأنجع على تطوير نظام الخطاب السياسي، لأنهم الحد الفاصل بين مفهومٍ ساجنٍ للدولة، ومفهوم مُطَوِّرِ لأداءاتها. eachpattern@hotmail.com