كنت في جلسة رمضانية جمعتني مع أصدقاء عرب، جمعت بيننا، كما يقولون، عشرة العمر تناقشنا فيها في شتى المجالات منها الدينية المتعلقة برمضان، أعاده الله علينا وعلى الأمة الإسلامية بكل خير، ومنها الثقافية والتاريخية، وخلال الحوار اتفقنا في مسائل واختلفنا في أخرى، ولعل أبرزها مسألة «الإبداع في ظل القهر»، قال الأول: لا يمكن أن يكون هناك إبداع في ظل قهر وظلم واستعباد، وأن المصريين القدامى عندما بنوا الأهرامات، بكل ما فيها من دقة وعبقرية، وغيرها من المعجزات التي مازالت تتكشف أسرارها حتى الآن تحسب للمصري القديم، لا يمكن أن تكون نتيجة استعباد وقهر بمن قاموا عليها على مدى سنوات، وإنما جاءت نتيجة لإبداع ورؤية متكاملة اتفق عليها الحاكم ومن قاموا على عمل هذا الإبداع، وضرب لنا مثالاً قريباً، فقال لولا الحياة الكريمة والأمن والأمان لما سطع نجم العالمين العربيين أحمد زويل، صاحب نوبل، وفاروق الباز ومئات غيرهما من العلماء العرب الذين قدموا للبشرية الكثير من خلال تخصصاتهم في جامعات العالم، ذلك أن جامعات الغرب وفرت البيئة العلمية المناسبة إلى جانب الإمكانات المادية، ووفرت الظروف المناسبة، ولو بقي هؤلاء في جامعاتنا المحلية لتحولوا إلى موظفين في العالم العربي بسبب الترصد والقهر النفسي والمعنوي الذي يعاني منه الإنسان العربي، ويقف ضد الإبداع الإنساني. أما صديقي الثاني فكان رأيه مغايراً واعتبر أن الفقر والعوز والقهر دوافع كفيلة لخروج الأفكار المبدعة النيرة التي تصل بصاحبها إلى المجد، وأن أغلب عباقرة العالم ولدوا من رحم المعاناة، وعلى سبيل المثال فعملاق الأدب العربي محمود عباس العقاد نشأ وأبدع عبقرياته التي تزيد عن مائة كتاب وسط أجواء استبداد والقهر التي عاشته مصر في النصف الأول من القرن العشرين، وكذلك صاحب نوبل نجيب محفوظ وآلاف آخرين استطاعوا تحقيق النجاح رغم معاندة الظروف وأجواء القهر والاستبداد في مجتمعاتهم، بل أن العديد من علماء الغرب الذين غيروا بأفكارهم تاريخ البشرية عاشوا المعاناة في أسوء صورها، ومع ذلك انتصرت الأفكار على القيود ومحاكم التفتيش التي حاولت استغلال الدين في أسوأ صورة لضمان السيطرة على المجتمعات ومعنى ذلك أن القدرات الذهنية والرغبة في تحقيق النجاح ووضوح الهدف عوامل كافية لتحقيق الإبداع مهما كانت الظروف المحيطة. قلت، وهذا رأي الشخصي، إن المثابرة والرغبة في النجاح ووضوح الهدف تعتبر أهم عوامل الإبداع وأن توافر البيئة المناسبة والظروف الصحية تسهم في بروز هذا النجاح، وأكبر دليل على ذلك تجربة الإمارات التنموية في العقود التي تلت قيام دولة الاتحاد منذ عام 1971 على يد مؤسسها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، أكبر دليل على ذلك فقد كانت كل الظروف المحلية والدولية، تؤكد صعوبة قيام هذا الكيان واستمراره، إلى أن عبقرية الشيخ زايد وقدرته على توظيف موارد الدولة وأولها الإنسان أثمرت هذا النجاح الذي بات نموذجاً للدولة الحديثة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فما حققته الإمارات خلال هذه السنوات المعدودة لهو الإبداع بعينه، وهو ما يؤكد وجهة نظري التي ترى أن الإنسان أصل التقدم مهما كانت الظروف.