اللجوء ألى الفن والهروب إلى فسحة الأدب هو المنجى الأخير للقلوب التائهة التي احتارت في تفسير الواقع المجنون المركب من تناقضات لا حصر لها. ومتعة الفنون والآداب أنها تعيد إنتاج الواقع بغرائبية أكبر وتذهب إلى رسم ملامح عالم ساحر تتهدم فيه الأسس المنطقية ويكبر فيه معمار الوهم، إلى درجة أن المشاهد أو القارئ يفضل نسيان وجوده القاسي ويختار متعة الانزلاق إلى تلك العوالم والرغبة في العيش داخلها إلى الأبد. والفارق الأعظم بين المتخيل والواقعي لا يكمن فقط في الأدب وإنما يمتد إلى أدق تفاصيل علاقاتنا بالعالم. فما هو حقيقي وتراه أمامك يبدو في نظر الفيلسوف مجرد وهم، وما كنت تظنه وهما قد يراه الحكماء باعتباره الحقيقة بعينها. وبسبب اختلاف هذه الرؤى لم يعرف أحد ما هي الحقيقة حتى الآن، وهل فعلا توجد حقيقة مطلقة يؤمن بها جميع الناس وفي جميع العصور وفي كل الأمكنة؟ وهل من الواجب أن توجد حقيقة من هذا النوع؟ الجواب بالتأكيد نعم. بدون وجود الحقيقة المسلم بها والمعترف بها من الجميع قد يولد الشك، وقد يدعي كل فرد امتلاكه للحقيقة ويذهب للدفاع عنها حتى الموت. هكذا نجد العالم اليوم وهو يتخبط في تجاذبات هذه الفكرة أو تلك، وما نراه من حروب تتكرر عبر العصور والأزمنة إنما هو نتاج ضياع الحقيقة المطلقة. قد يوافق اثنان على أن حاصل جمع رقمين يساوي ضعفهما. هذه حقيقة حسابية مطلقة، لكنهما قد يختلفان في وصف حالة الجو فيشعر احدهم انه بارد ومعتدل بينما يراه الثاني حارا وقد يقتتلان بسبب ذلك ولن يعرف كلاهما ما هو الصواب وأين الخطأ. والحقيقة المطلقة في شكلها المنطقي لا بد أن تكون واحدة لا تتجزأ، ولا تتناقض أو تتغير مع الزمن، هذا إذا قيست بأدوات العقل، لكن هناك إدراك أكبر من العقل يكمن في قلب الإنسان وهو الإيمان الذي يتجاوز في عمقه منطق القياسات الرياضية ويحاول أن يسبر صميم الإشكال الفلسفي والوجودي للبشر، فالأخلاق على سبيل المثال لا يمكن أن تفسر بالأسلوب الرياضي وإنما تخضع لقياسات النية، والنوايا قد تكون مغلوطة ومقلوبة وربما تعود بنتائج مغايرة لما يراد بها. هكذا سيظل البشر يتقلبون إذن في صراع المعرفة بالحقيقة وبذلك فانهم يعيشون (الشك المطلق). لكن لا يوجد شك دائم إلا إذا كان الوجود ناقصا. والإنسان لن يدرك ما هو مطلق بعقل محدود وخاضع لعوامل الزمن والتغيير الدائم. الانتصار على محدودية العقل يكمن في إطلاق العنان للروح والقلب والعيش بهما والتعامل مع الأشياء والوجود من خلالهما. والجمال (الحقيقي) يتجلى عندما يزيح البشر الغشاوة عن قلوبهم لتتكشف لهم روعة المطلق الصافي الخالي من شوائب الزوال. akhozam@yahoo.com