عندما عشت مع العجوز البريطانية “شيللا” كنت أكتشف كل يوم أمراً مهماً في حياة تلك السيدة يجعلها تختلف عن عجائزنا في تقبلها للحياة وعدم تبرمها مثلهن من كل شيء، رغم أنها قد تجاوزت ربيعها الخامس بعد السبعين ولكن بكل رشاقة وأريحية تحسد عليهما فعلًا، فقد ذهبت إلى مدينة كامبردج الجميلة وأنا أحمل عنوان بيت السيدة شيللا بعد أن أريته لسائق السيارة الذي أقلني من لندن إلى هناك، وهناك حينما وقفت بي السيارة أمام منزلها وضغطت على جرس الباب اعتقدت بأنني سأقابل سيدة تجر نفسها جراً أو تتحرك على كرسي متحرك، لكن الباب انفتح على مفاجأة غير متوقعة بالنسبة لي.
كنت أعلم أنني سأسكن في منزل سيدة عجوز أعطوني كل مواصفاتها وطباعها، لكن العجوز التي فتحت لي الباب لا تبدو في الخامسة والسبعين أبداً، فقد أدخلتني وأستأذنت لأنها كانت في طريقها إلى السوبرماركت، تبعتها إلى الخارج فإذا بها تخرج دراجة هوائية كانت تضعها في مكان ما فتحت القفل ثم ركبتها برشاقة وانطلقت كصبية في الخامسة عشرة لا أكثر!!
في اليوم التالي كان علي أن ألتحق مباشرة بمدرسة اللغة الإنجليزية، وكان يتوجب عليها أن تشرح لي كيفية استخدام الحافلة والمحطات التي علي المرور عليها ومتى يتوجب علي قرع الجرس ليتوقف السائق عند المكان المحدد لنزولي، وهنا عرضت علي أن أركب خلفها على دراجتها في طريقنا لموقف الحافلات، فاعتذرت بلباقة وأخبرتها أنني أفضل أن أصل مشياً على قدمي فالطقس جميل، وهو بالتأكيد أجمل من منظري وأنا أركب دراجة متهالكة خلف عجوز بريطانية!!
فيما بعد تعرفت إليها جيداً فأسرت لي بأنها حينما رأتني للوهلة الأولى اعتقدت بأنني هندية فهي لاتعرف من الشرق سوى الهند على ما يبدو، فهذا آخر ما درسته في مادة الجغرافيا قسم المستعمرات البريطانية، المهم أنها لم تكن لطيفة بما يكفي لتخفف عني كآبة الغربة والوحدة وقسوة بريطانيا التي لم أتمكن من استلطافها يوماً فعدت دون أن أكمل دراستي!!
لم أجد هذه العجوز رغم وحدتها تشكو يوماً من شيء ما، لا من أولادها الذين لا يزورونها باستمرار كما تفعل كل الأمهات عندنا، ولا من الحكومة التي لا توفر لها العلاج ومساعدات الشؤون الاجتماعية ولا من مشاكل هشاشة العظام أو مواعيد فحص الضغط والسكر والكلسترول، لم تشتك يوما لأن جيرانها لا يزورونها كما ينبغي، ولم تتحدث على الهاتف أكثر من عشر دقائق، تعد لي ولنفسها كل يوم ودون كلل طعام الافطار (يادوب بيضة مسلوقة وتوست بايت) ووجبة الغداء، وتهتم بحديقة لطيفة في فنائها الخلفي وهي من المهتمين بزهرة الاوركيد، فكانت تذهب إلى كل معرض للزهور يقام في المدينة لاقتناء زهرة جديدة أو كتاب يتحدث عن هذه الزهرة الرائعة، كانت تقضي نهارها تقرأ الصحف الفضائحية تحل المسابقات وترتب قصاصات تقتطعها من هنا وهناك ربما احتاجتها مستقبلا!!
حياتها العائلية تسير في خط مستقيم لم يختل يوماً، فيوم السبت يأتيها ابنها الكبير مع ولديه الذين يملآن البيت لعباً وضجيجاً حتى العصر، ويوم الاحد تأتيها ابنتها باكراً لتصطحبها معها طيلة النهار، ماعدا ذلك، فإن بقية الأسبوع تقضيها شيللا وحدها تتدبر أمورها ببساطة وهدوء ودون تذمر.



ayya-222@hotmail.com