أعجبتني رسالة وصلتني من أحد الأصدقاء تتحدث عن فن الجواب المفحم الذي يسكت به صاحبه الآخرين الذين يبتدرونه، إما بكلام غير لائق أو أسئلة خارجة عن حدود اللياقة أو بعبارات تحتاج إلى قوة احتمال مع سرعة رد صاروخية توقف صاحبها عند حده وتحد من قدراته الهجومية، وقيمة الجواب المسكت في فوريته، فهو يأتي كالقذيفة يسد فم السفيه ويجعله يبتلع سفاهته نادماً عليها، وفي حياتنا كثير من هؤلاء الذين لا يمر كلامهم على عقولهم وقلوبهم على ما يبدو قبل أن تنطلق به ألسنتهم، فيحتار الإنسان معهم، هل يعرض عنهم من باب أن الإعراض عن السفهاء حكمة، أم يرد عليهم من باب أن التصدي للسفاهة حق مشروع!
من هؤلاء الذين اشتهروا عبر التاريخ بالردود المسكتة كان الساخر الكبير برنارد شو، فقد التقى ذات ليلة بشاب صغير في إحدى الحفلات، فَعَرف ذلك الشاب نفسه بأنه كاتب ذو طموح، لكنه بادر الكاتب الساخر متهكماً: أنت يا برنارد شو تكتب بحثاً عن المال، لكنني أكتب بحثاً عن الشرف، فما كان من الفيلسوف إلا أن عاجله برد غير متوقع قائلاً: صدقت يا عزيزي، فكل منا يبحث عما ينقصه!
ومثل الكلام قد يكون التصرف صامتاً لكنه قوي كطلقة مدفع، مثلما فعل زعيم الاتحاد السوفييتي السابق خروتشوف الذي استخدم حذاءه مرتين، الأولى حين قام عام 1960، وخلال الجلسة التحضيرية للجمعية العمومية للأمم المتحدة، بالضرب بحذائه على منصة الأمم المتحدة معترضاً على خطاب رئيس الوفد الفلبيني، الذي انتقد فيه الاستعمار السوفييتي في أوروبا الشرقية، وتحدث عن تأييد بلاده لاستقلال دول أوروبا الشرقية.
وفي جلسة أخرى من الاجتماعات نفسها، خلع حذاءه مرة ثانية وضرب به الطاولة الموجودة أمامه في الجمعية العامة احتجاجاً على تصريحات الأمين العام هامر شوك المؤيدة للولايات المتحدة، ومع أن حديث الأحذية قد اشتهر كثيراً في التاريخ السياسي كنوع من الردود المسكتة، إلا أن أشهر هذه الردود ما حدث لآخر مرة في العراق وبشكل لا يمكن نسيانه فكان جواباً مسكتاً بالفعل.
إن سرعة البديهة فن من فنون المخاطبة، ولكثر ما تتجلى هذه الموهبة عندما يستفز الشخص أو حينما تغالط الحقائق، أو حينما لا يعرف الإنسان مقدار من يخاطبه ولا يزن الكلام الذي يقوله، وقد قابل الشاعر العربي المعروف بشار بن برد، أحد هؤلاء في الطريق فسأله قائلاً: لقد أعماك الله يا بشار فبماذا عوضك؟ فأجابه الشاعر: عوضني بأن لا أرى أمثالك! وإلا كيف يمكن أن يجاب على رجل بهذه القدرة على جرح الآخرين، كذلك الرجل الذي قال أمام الملأ في حافلة عمومية عندما ركبت امرأة بدينة جداً: لم أكن أعلم أن هذه الحافلة مخصصة للفيلة، فأجابته على الفور: الحقيقة أيها السيد هذه الحافلة مثل سفينة نوح تركبها الفيلة والحمير معاً!
يحتاج صاحب الرد المسكت إلى خصلتين أو موهبتين في الوقت نفسه: سرعة البديهة وخفة الظل، وهما لا تتوافران إلا لعدد قليل من الناس، عادة ما يكونون على درجة من الذكاء الاجتماعي والصراحة العالية والثقة بالنفس، والقبول الاجتماعي الطاغي الذي يؤهلهم لابتداع هذا النوع من الفن.



ayya-222@hotmail.com