خلاف ما هو معتاد سأقوم بقراءة ملاحظات قارئ بدل أن يقوم هو بقراءتي. الصدفة الموضوعية أيضاً قادتني لمحل يبيع الكتب المستعملة؛ لأجد نسخة من كتابي: “في غيبوبة الذكرى ـ دراسات في قصيدة الحداثة” (دبي الثقافية، ديسمبر 2009) معروضة للبيع. واضح أن للقارئ موقفا أثارته قراءة الكتاب، بدليل إشاراته بالقلم تحت عبارات لي أو أبيات من قصائد استشهدت بها وآراء عرضتها أو ناقشتها. أول ما يلفت تنبه القارئ للتشوش الحاصل في النظرية الأدبية عندنا فكما ارتضينا وأجرينا مصطلح الشعر الحر للدلالة على شعر التفعيلة الذي هو ليس منه في الأصل، اعترفنا بخطأ مصطلح قصيدة النثر الذي وصفتَه بأنه جسيم لكن ذلك لم يمنع انتشاره. وقد جرى قلم القارئ بخطوط كثيفة متبوعة بعلامات تعجب تخفي استخفافه رغم احترازي بالقول إن النقد الحديث يكيّف المصطلحات ويعدّل المفاهيم لصالح النصوص، ومع درويش وحداثة قصيدته يقف قلم قارئي طويلا، فيعلّم تحت وصفي لشعرية درويش واشتغاله الشعري بأنها تحليق في فضاءات المجاز وانزياحات اللغة الاستعارية، ويذهله قول درويش مراقبا حلم محمد الدرة بعد مقتله على الشاشات: “أين سيحلم لو جاءه الحلم../ والأرض جرح ومعبد؟”، وتستوقفه سخريات درويش وفكاهاته الدامعة ـ كان درويش يتمنى لو تمت دراسته بمقترب السخرية المريرة ـ وكذلك توقع درويش موعد ميتته: (لقد مكرت واقعة الموت بدرويش يوم السبت فعلاً كما ذكر في قصيدة له)، والمكر يلازم القارئ أيضاً فيعجبه الانتصار للشعري وخروج الشعراء على الخطاب السياسي المتميز بالتهاميته للفن فيضع ـ هذا القارئ الذي هو بحسب بودلير شبيهي وأخي ـ خطوطاً تحت تنويهي بفكاك الشعراء السياب وأدونيس ودرويش وسواهم من حزبيتهم وانتمائهم المباشر. ولعل للقارئ موقفاً من الغربة مكانية أو عاطفية؛ فهو يخط تحت قولي إن ثمة تعارضا ًبين المهاجر والمكان يجسده نفوره منه كما في قول صلاح فائق (من قدامى شعراء الستينيات العراقية المهاجرين): “مدينة تعض حدائقنا/ نسمع صراخها في غرفنا ونحن نتهيأ للنوم لكي نحلم”، وقول السوري رياض العبيد: “مهما كنت ثعلبا في الغربة، فسيضبطك الوقت يوما ما وأنت تمارس العادة السرية مع الحنين”، ويرى التفاهة تتشمس على سواحل كاليفورنيا بينما “القصيدة تقبع في كوخها مثل أرملة وحيدة”. وكأن قارئي بهذا التشديد على المختارات والفكرة التي تسبقها يطرد عنه عدوى الهجرة وتداعياتها. وللقارئ موقف من شعر المديح المتفرع عن الموقف السياسي أحياناً أو المصلحي غالباً، فيضع خطوطاً تحت مبالغات المداحين القدامى الذين وصل بهم الأمر حد القول للممدوح: “ما شئتَ. لا ما شاءت الأقدارِ/ فاحكمْ فأنت الواحد القهّارُ” رغم أني فرقت بين القصيدة الوطنية والسياسية، لأن الأخيرة مرتهنة بظرف قد يزول كالخلافات بين الدول مثلا والتناحرات الحزبية فينتهي مفعول تلك القصائد، ولم يمنع ذلك من التعليم تحت فكرة عيش شاعر كالجواهري في قلب عصره لا في حواشيه أو هوامشه.