لا أنسى المرة الأولى التي قرأت فيها رواية صنع الله إبراهيم “تلك الرائحة”. كانت الصدمة المترتبة على قراءة الرواية غير معتادة، فلم أقرأ رواية عربية قبلها تمتلئ بهذا القبح الصادم للعين، لحظة القراءة التي تحيل الكلمات إلى مشاهد قبيحة، صادمة، مقززة أحيانا، منفرة في أخرى، فهناك الغرفة التي يقطنها البطل وحيدا، وهي غرفة تبرقش أرضيتها أشكال البصاق، ويوحي الوصف بسرير البطل الذي لا يقل قذارة عن الغرفة، ولا عطنًا عن رائحة عرق فتيات الليل اللائي نمن عليه، وحين يفارق البطل الغرفة التي تبدو كأنها زنزانة، استبدل بها زنزانة السجن، فيبدو البطل كأنه يفارق سجنا إلى سجن، ولذلك تتناثر دلالات السجن في كل فضاءات الرواية: مياه المجاري التى تنشر رائحتها في كل مكان، بما يعيدنا إلى صور السجن ولوازمه، وأضف إلى ذلك القضاء المتعمد في السرد على أي إمكان للتعاطف أو التقمص الوجداني، فالمشاعر منتزعة من داخل البطل، لا نرى علاماتها الوجدانية في أى مكان فى السرد، فالبطل يرقب الآخرين في حياد، كأنه محض عدسة كاميرا محايدة، والمشاهد لا تتتابع بما يبشّر بحالة تعاطف وجداني، فالسجن أجدب المشاعر، تماما كرائحة المجاري التي لا تبعث إلا على الاشمئزاز، كأننا نعيش في حال يصفها فيلسوف الفن الإسباني أورتيجا إي جاست بأنها حال إطراح النزعة الإنسانية أو العاطفية بلا فارق، وحتى في علاقة البطل بوالده يبدو الجدب العاطفي لافتا، تماما كتلك الرائحة المنفرة التي نلمحها بلا انقطاع فى رواية تنقلنا من سجن صغير بحجم المعتقل إلى سجن كبير بحجم الوطن، حيث كل ما تراه العين يبعث على النفور والتباعد الحذر الذى لا يخلو من عدائية، ولذلك يمكن أن نتحدث عن ما نسميه “جمالية القبح” في رواية صنع الله التي يمكن أن أوازي بينها و”جمالية القبح” في قصائد الماغوط والصلة بين الاثنين هي صلة إعلان انقطاع المجرى الأدبي، وتحويله من نوع كتابي بهيج إلى نوع كتابي كئيب. ولا أدري لماذا يرد على ذهني دائما مقطع من قصيدة صلاح عبد الصبور “رسالة إلى سيدة طيبة” يقول فيه: أشقى ما مر بقلبي/ أن الأيام الجهمة/ جعلته يا سيدتي قلبا جهما/ وأنا لا أعرف كيف أحبك/ وبأضلاعي هذا القلب هذا النوع من القلوب تحجره التجارب المروعة، ويخرجه القمع من جنة العواطف النبيلة إلى عالم يخلو من العواطف، الحب فيه بلا جذور، والمشاعر العائلية كأنها عبء مفروض على الذي لا يكف عن الشعور بأنه يواجه عالما عدائيا، عليه أن يبادره بالعداء حتى لا يستضعفه هذا العالم، فحسبه ما نال من قبل ولذلك كانت هذه الرواية نقطة تحول فى تاريخ الرواية العربية، وعلامة تمايز بين ما قبلها وما بعدها من الروايات التي مضت في المسار نفسه، أو اتخذت مسارا آخر لكنها في كل الأحوال، كانت إيذانا بعهد جديد من الكتابة.