الوضع في مصر تحديداً مختلف بكل المقاييس، وحينما قال سيف الإسلام القذافي وقبله القذافي نفسه إن ليبيا ليس مصر ولا تونس - لبث الرعب واليأس في قلوب الثائرين - فقد قالا الحقيقة لا أكثر ، ذلك أن كل البلاد العربية لايمكن أن تكون مصر ليس لأن مصر لا تتشابه أو لا تتقاطع مع الوطن العربي في سمة أو ميزة ولكن لأن خصوصية مصر السكانية والحضارية ومميزات الشخصية المصرية عبر التاريخ، إضافة للإرث السياسي الذي يكون تاريخها الحديث، يجعل من الصعوبة بمكان مقارنتها أو مقاربتها بأي بلد عربي آخر .
لم يكن لدى أحد من الذين يعرفون مصر أمل كبير في حدوث هذا الانقلاب الهائل في الحياة السياسية المصرية بالطريقة الثورية التي حصل بها، فمصر خزان الصبر عبر القرون، والمصريون معروفون باحتمال طغاتهم وبعبادة فراعينهم عبر التاريخ، كان من الممكن تصديق اندلاع ثورة أو إضراب أو حتى عصيان مدني، لكن أن يحدث كل ذلك معاً وبالهبة الجماهيرية التي اجتاحت كل القطر المصري كما رأى العالم وتابع، فالأمر حتى اليوم مثار عجب وتعجب وإعجاب لا شك فيه.
مصر اليوم تسوق حكومة مبارك الى محاكمات تحت شعار محاسبة الفاسدين ومساءلتهم عن حقيقة ثرواتهم المتضخمة تحت عنوان كبير هو من أين لك هذا ؟ وقد كان هذا النهج حلماً لمثاليين والطوباوين في مصر سواء من قبل رموز المعارضة أو دعاة الإصلاح والتغيير، مع ذلك فمصر ماضية إلى ما هو أكثر من ذلك ، محاكمة الرئيس وأفراد عائلته تحت العناوين والشعارات نفسها ..
لماذا يصر المصريون اليوم على هذه المحاكمات ؟ وعلى أن تتم بشكل شفاف وأمام الجماهير المصرية ؟ مع كل ما نعرفه عن المصريين من طباع تتسم بالعاطفية الشديدة والتعاطف مع الضعيف والكبير ؟ الشخصية المصرية شخصية طيبة جداً ومتسامحة جداً ولا تحمل ضغائن أو ثأراً، مع ذلك فأغلب المصريين اليوم ميالون لإجراء هذه المحاكمات الأولى من نوعها في التاريخ المصري قديمه وحديثه ؟ فمن أين ينبع هذا الإصرار يا ترى ؟
يخيل لكثيرين أن المصريين وهم يؤسسون لجمهوريتهم الثورية الثانية، يحاولون معها بناء شخصية مصرية مغايرة تحتفظ بأفضل ما فيها وتتخلص من كل لوثات وسوءات التاريخ وأول خطايا التاريخ هو ذلك الانصياع المطلق للفرعون والصبر على الظلم وهضم الحقوق، مصر لا تريد أن تحاكم مبارك الشخص ولكن تريد أن تحاكم فيه كل الطغاة الذين عبروا أرض مصر واعتلوا أكتافهم، ونهبوا خيرات مصر والمصريين وداسوا على رقابهم، وكأنهم يريدون أن يتطهروا من عبادة الفرعون أخيراً وإلى الأبد !! لأن من يريد أن يبني جمهورية برلمانية ديمقراطية لا يمكنه إلا أن يعيد اكتشاف ذاته في علاقته بالآخر الذي يعيش معه وفي علاقته بنفسه وفي علاقته ونظرته لمن يحكمه وفق أسس صحيحة وسليمة.
لقد نجح المصريون في ثورتهم والأهم في إعادة موازين السياسة إلى نصابها لبلد كمصر وبأقل عدد من الضحايا والمواجهات الدموية التي نراها في بلدان أخرى، وهو انتصار آخر يحسب لمصر وللمصريين، لكن نجاح مصر الأكبر في عبور المرحلة الانتقالية التي يحيونها اليوم والمليئة بالكثير من الألغام والصعوبات على جميع المستويات، الكل يراهن على وعي المصريين وحرصهم على إنجازهم، لإنه الإنجاز الأكبر والأعظم في كل تاريخ مصر.


ayya-222@hotmail.com