مع بدايات التأسيس في الدولة، استعانت إحدى الجهات الاتحادية بخدمات مستشار قانوني لتنظيم العمل في مؤسسة أرادت أن يكون لها استقلالها المالي والإداري، بعيدا عن التعقيدات الإدارية والروتينية، خاصة أن لوائح تلك المرحلة المبكرة من قيام الدولة، كانت خليطا من قوانين وأنظمة تم الاستعانة في وضعها بمستشارين وخبراء من دول عربية عدة.
السيد المستشار الذي استعانت به تلك الجهة، وقد كان من إحدى الدول العربية الشقيقة فهم الرسالة أو الغاية من الاستعانة بخدماته بطريقته الخاصة، ففصل لوائح تلك الجهات على مقاسه، بحيث لا تمر شاردة أو واردة تتعلق بتلك الجهة إلا من خلاله. فلم تمض بضعة أشهر حتى ضجت قيادات تلك الجهة وحتى موظفوها بالشكوى من تعقيدات أرادوا أن يتحرروا منها، وإذا بهم أسرى العقلية البيروقراطية للسيد المستشار الذي بررها للمقربين منه بأنها لإثبات وجوده وأهمية دوره، ولم تمض فترة بسيطة حتى طار الرجل غير مأسوف عليه، واكتشفت تلك الجهة متأخرة كم جنت على نفسها باستقدام تلك النوعية من العقليات باسم الخبرة. وكما تلك الجهة كانت هناك دوائر عدة تم تفصيل لوائح معقدة لتسيير العمل فيها فترى كتيبة كاملة من الموظفين تجند للصادر والوارد على سبيل المثال، هذا يختم وذاك يدقق، وثالث يراجع ورابع يسلم التعاميم وخامس يتابع سير الورقة حتى مستقرها في أحد الأدراج، كل ذلك في مجتمع محدود الموارد البشرية يتطلب تقليل تلك الدورة بشمولية الأداء والتميز.
اليوم نعيش عصرا مختلفا تتسابق فيه مختلف دوائر الدولة ومؤسساتها لوضع اللوائح والأنظمة والقوانين التي تحقق أعلى قدر من انسيابية العمل دون تفريط في المال العام أو حقوق العاملين.
وأصبحت هذه الدوائر في تنافس على جوائز الجودة والأداء الذي يحقق الاستفادة المثلى من الموارد البشرية ويقدم أفضل الخدمات للعملاء الذين كان يطلق عليهم المراجعين.
ورغم رياح التجديد والتطوير الذي تشهده وزارات ودوائر الدولة لا زال بيننا مستشارون بذات عقلية السيد المستشار الذي أشرت إليه، وحل بيننا منذ أكثر من ثلاثين عاما، والذي تذكرته بينما كنت أتابع معاناة موظف اتحادي أراد أن يستفيد من خطوة الدولة بفتح باب التقاعد الاختياري للموظفين، والذي سيغلق في السادس من ديسمبر المقبل. فقد أفتى المستشار المعني بأن القرار يشمل فقط موظفي الوزارات الاتحادية، ولن يستفيد منه موظفو الهيئات أو المجالس الاتحادية إلا إذا أضيفوا للقرار في صورة توضح “ الحرفية” التي يعمل بها أمثال هؤلاء من دون أن يدركوا أبعاد الأمر والغايات السامية، والأهداف البعيدة المدى التي تسعى من ورائها الدولة عند فتح مثل هذا المجال، فهي خطوة تضخ دماء جديدة في الدوائر والمؤسسات، وكفاءات جديدة من أبناء الوطن تسلحوا بأعلي الشهادات وبرامج ودورات التأهيل. وفي الوقت ذاته تتيح تقاعداً مريحا وكريما لرجال ونساء عملوا بجد وإخلاص وافنوا زهرة شبابهم في خدمة بلادهم، واقتنعوا بأن الأوان قد حان لإفساح المجال لجيل جديد يتسلم الراية ويواصل مسيرة البذل والعطاء لرد ولو جزء يسير من الدين الكبير الذي يطوق أعناقنا تجاه وطن العطاء. وهذه مناسبة لدعوة كل من يهمه الأمر لمراجعة ما يرسم له البعض من أمثال السيد المستشار.


ali.alamodi@admedia.ae