إذا كانت بدايات الحياة أمراً لا يمكن للإنسان أن يختارها أو يشارك في صنع تفاصيلها، فالأجدر بالنهايات أن يكون له موقف منها، فلا يمكن له أن يترك الأمور تلعب به وبمصائر أيامه الأخيرة من الحياة، كثير من الفلاسفة والأدباء يطرحون هذا الرأي، وكثير من العظماء يصرون على اختيار النهاية التي تليق بهم وبتاريخهم وأسمائهم، خاصة إذا ما عاكستهم الحياة أو فرضت عليهم أموراً جساماً ما عادت أعمارهم تتحمل وزرها وثقلها.
البحّار الشجاع هو ذاك الذي أصر على ارتداء معطفه البحري، وجلس في مقصورة القيادة بكامل أناقته حين وجد نفسه وظروف غرق سفينته، ففضل أن لا يستسلم للريح لتأخذه مع الحطام، وقرر أن يموت ميتة تليق بالقبطان هناك حيث الزرقة، وبرودة مياه المحيط، وسفينته الطابعة في القيعان، كثيرون من الطيارين كان يمكنهم قبل ساعات النهاية الاختيار بين أكثر من نهاية، لكن معظمهم يفضل أن يضحي بالنفس مقابل حيوات أناس آخرين كثر، فيجنب طائرته الاصطدام بمساكن مأهولة أو طرق عامة تغشاها الحشود، الهزيمة في ثقافة الياباني تعني العار الأبدي، وأن لا أقدام قوية يمكن أن تصلب الجثة المهزومة، لذا كثير من قادتهم كان يفضل العودة على نعش يحمله جنده على أن يعود ليروا الناس دموع الانكسار في عينيه، لأنه يمكن أن يجلب لهم الهزيمة لداخل نفوسهم، الشاعر بوشكين فضّل أن يختار لحظات قليلة في الحياة مع عزة نفس وكرامة تجعل من أنفه عالياً دائماً على الأقل أمام ذاته، ولا يقبل بالمهانة وبإذلال من الآخر، ولو أعطاه هذا الآخر مزيداً من الوقت في الحياة، حسمها بوشكين وحمل سيفه لمبارزة غير متكافئة ساخراً من الحياة مع الذل.
كنت أتمنى على ذلك العسكري على الدوام أن يتذكر بزته العسكرية بنياشينها، يرتديها قبل النهاية، ويرفع للناس يده بتحية عسكرية، ويقول لهم ولثورتهم: يحيا الوطن، مثلما تمنيت أن لا أرى في حياتي قائداً هارباً للخارج يسبق نساءه كزعيم العصابات المراهق، أقلها أن يكون هروبه في الداخل مقاومة، ولو ألقي عليه القبض في جحر العنكبوت بهيئته غير الآدمية، وشنق واقفاً، ولا يكون ذلك السجن مقراً بعد قصر الرئاسة، وما أشده حينها على الإنسان الذي لا يحمل في قلبه قضية وطنية أو من أجل شرف للنفس عظيم، وحدهم من يحملون رتبة جبان أو هم من عشّاق النفس، ومحبي الميكروفونات، ومجانين العظمة لا يقدرون أن يختاروا نهايتهم أو يعجلون بها، ويظلون يمثلون أدوارهم بعد انسحابهم من مكانتهم حتى تغتالهم رصاصة من الداخل أو تهاجمهم أوجاع الشيخوخة المتأخرة.


amood8@yahoo.com