كنت صغيرة جداً على ذاك النوع من الأسئلة، لكنني اعتدت أن أسأل عن أي شيء يعبر أفق خيالي أو عيني، ذات صباح وبعد أن جدلت أمي شعري وربطته بالشرائط البيضاء وناولتني حقيبتي المدرسية، وقفت أمامها وسألتها عن الشوق لأنني سمعتها تردد أكثر من مرة أنها مشتاقة لخالي المسافر، فماذا يعني أن نشتاق ؟ كان السؤال كبيرا جدا على طفلة، وكبيرا جدا على أم، فما كان منها الا ان نظرت إلي وقالت: عندما تعودين من المدرسة سأخبرك، كانت تتخلص مني ومن السؤال لا أكثر، لأنها لم تخبرني أبدا!
بعد زمن طويل، عرفت الإجابة حين نسيت كيف يمكن لقلب أن يكون مغسولاً من هذ الغواية، غواية المطر والزهر والطيور، كيف لقلب أن يكون نقياً منه كغيمة صيف أو أنقى، انه الشوق حين يتلبسنا فنرنو لكل بعيد، لمن نحب، ولأيام مضت، ولمنازل الطفولة، لأيام المدرسة، لبلاد نحبها بلا سبب سوى ائتلاف المكان وأنس الوقت، نشتاق لمشاريعنا الكثيرة التي أجَّلناها زمناً بانتظار يوم كنا على ثقة بأنه سيأتي، حاملاً بشارات الهدوء وراحة البال وفضاء الوقت، لكن الأيام مضت، وأوصد دون تلك المشاريع ألف باب وباب، وحده الشوق بقي مستيقظاً يقيم قداس الانتظار على بوابات القلب دون كلل.
اليوم أتذكر جرأتي على السؤال، لكنني أصير أكثر اقتناعاً بأن أول أسئلتنا هي نبوءة مصيرنا، فحين كبرت طفلة الجدائل المشدودة بشرائط بيضاء صار الشوق يسكنها حتى آخر النخاع، وحين سافرت لإكمال دراستي قضيت أيامي الأولى أبكي كطفلة كل ليلة شوقاً لوالدتي التي ودعتها على عتبة بيتنا الدافئ وتركتها تبكي بحرقة أحرقت قلبي طيلة الطريق الى هناك، لم تستطع المدن والناس والأصدقاء ولا لندن الصاخبة ولا الدراسة والكتب والجامعة والمكتبات والإرهاق والتعب، لم يستطع شيء هناك أن يغلق نافذة الشوق في قلبي.
وحدها تلك العصافير التي كانت تنقر زجاج نافذتي كل صباح كانت صديقتي، كانت تحط على حافة النافذة لتلتقط أي طعام تلمحه، وحين ألوح في أفق الزجاج تهرب، تخاف، كنت أضع لها بعض الطعام لتعاود المجيء، كانت تطعمني أنسا ولست أنا من يطعمها في الحقيقة، هناك تراءت لي والدتي وهي تودع أخي في كل مرة يسافر فيها، كانت تبكي وكنت أقول له: لا شيء يساوي دمعة أمك، أشعر بدمعها يحرق دمها، لو كنت مكانك ما ذهبت، كان يبتسم حزيناً لأنه ببساطة يجب أن يذهب ويكمل دراسته، في سفري تذكرت ذلك فتساءلت كيف تواتينا الجرأة نحن أبناء المسافات على انتهاك حرمة قلوب من يحبوننا ؟
ولم أكمل دراستي، ناداني الشوق إلى هنا، فعدت، لم أشعر بأي ندم فيما بعد، ولا بأية رغبة في معاودة الترحال المضني، فماذا تعلمنا الغربة سوى القسوة والحزن، إنها تبعثر أحزاننا على محطات الانتظار في نهارات الشتاء القاسي الذي بلا نهاية، هكذا نقضي الأيام هناك نبعثر دفء قلوبنا في محطات القطارات ومواقف انتظار الحافلات، وفي زمهرير الشتاء بلا رحمة، وحيدين إلا من ذكريات نصر عليها، نستعيد بها دفء البيت وحنان الأم وأصوات الأخوة والأصدقاء ورائحة الأمكنة التي نحب ونعشق ونشتاق.


ayya-222@hotmail.com