حين تسكننا الغربة أو نسكنها، لا نسأل عن أبنائها وبناتها الذين تلدهم في أوقات مختلفة من النهار والليل، ولا خيار أمامنا سوى التعامل مع قطعانها وطوابيرها وأفواجها، فقد تأتينا فرادى أو جماعات، وقد تباغتنا مباغتة كالفاجعة، وقد تتسلل إلى عظامنا كبرد لئيم، وقد تمر مختالة تمد لنا ألسنتها وتمضي، وقد تعذبنا كالجيوب الأنفية المستثارة، تبكينا، تضحكنا، تجعلنا هازئين سوداويين لا مبالين فجائعيين لامبالين، تشكلنا بأناملها الناعمة أو بسكاكينها المفلطحة، كما يشكل نحات عجينة، فإما ننصاع لها مستسلمين لرعونتها وفحشها ولينها وقساوتها، وإما نشرع في مقاومتها، ولكن خشيتنا تكمن من تحولنا إلى محاربين لطواحين الهواء، نسمع طنينا ولا نرى نحلا، نسمع صراخا ولا نرى أحدا، يرتدينا الصمت في الازدحام، ويسكننا الزحام في العزلة. الغربة ليس كائنا ولا فكرة ولا حالة ولا موقفا ولا مكانا ولا زمانا ولا ممارسة ولا نتيجة ولا فلسفة، إنها كل ذلك، ونعرف هذا تماما، إلا أن ما لا نعرفه هو عدم قدرتنا على مقاومتها، القصيدة والقصة واللوحة والمسرحية والمقالة، كل تلك الأشكال عاجزة عن وقف حالة النهش الممنهج الذي تمارسه الغربة بشهية مفتوحة، وكأنها ثقب أسود لا تشبع. إن أشد أنواع الغربة تلك التي نصاب بها ونحن في أوطاننا وبين أحبابنا وأهلنا، تتحول إلى داء فتاك يذيب الروح، فتصبح دقائق الحياة جحيما، ويفقد أي إنجاز فرحته، تحول الأطفال إلى عجائز، والأشجار إلى أشباح، وحركة الليل والنهار إلى ضيق في التنفس. إن ما يسلخ الجلد عنا ونحن أحياء، عدم فهم المحيطين بنا لمصابنا، تسطيح رؤيتنا، تسفيه عذاباتنا، تشويه أفكارنا، تلويث ما نكتبه عنا، وقد نصبح في نظرهم، في مرحلة ما، مجانين، معقدين، مكتئبين، متشائمين، ونحن من كل ذلك براء، إلا أن المصاب بداء الغربة يحلم في وقت ما، أن يتحول إلى عجينة بين يدي عاشقة تشكله وفق نبضها، أو إلى حصان بري جامح ينطلق في مدى دون رغبة في الوصول. المسكونون بالغربة أحياء من الدرجة الأولى، يستمعون إلى نبض كل ما يحيط بهم، يدركون كل ما يسمعون بحساسية عالية، ويفرحون للجمال في كل شيء، هم مسكونون بروح حقيقية تدرك مأزقها، تستعذب هذا المأزق أحيانا، لأنه يشعرها بالوجود، المسكونون لا يمرون كالهواء بين البيوت، لأنهم يقرؤون ما تكتبه الأزقة والجدران، ويكتبون ما يقرؤه ساكنو البيوت. أن تكون مبدعا هو أن تكون غريبا، وأن تكون شاعرا هو أن تكون مصابا بداء الغربة، وتبحث عن شرفة تطل منها على ما يليق بك، بحر تعيد ترتيب موجه، حبيبة تضفّر لها شعرها، وطفل تصنع من نفسك مهرّجا لتسمع ضحكته، وقصيدة تتغزل بها بترابك، وإن أدمى شوكه يديك. انور الخطيب akhattib@yahoo.com