فاجأني الصديق الدكتور حاتم الصكر، قبل أشهر، بأنه عاقد العزم على الهجرة من هذا العالم العربي المتسع. ثم فاجأني، قبل أيام، بأن موعد مغادرته قد أزف، فاحترت لحظتها: هل أقول له مبروك أم رافقتك السلامة؟ يدفع قرار رجل مثل الدكتور حاتم الصكر بالهجرة، إلى التفكير مليا بحال هذه الأمة الطاردة. فصديقنا صاحب عمود “استطرادات” في “الاتحاد الثقافي” مثال للأكاديمي المجد، والناقد المجتهد، والمثقف الواعي. وهو قبل هذا وذاك، مثال نادر لخلطة إنسانية من المودة والاحترام والتواضع والكياسة والنزاهة. لكن كل تلك الصفات لم تشفع له عند أبناء جلدته، فخرج من بغداد، كغيره من آلاف العراقيين، عندما بات العيش فيها يعادل الموت. وعندما أصيب العراق بمرض جنون البشر المسلح بالقهر والعدوان والطائفية، غاب ابنه في غابة الجنون. انتزعوه من بين أولاده وزوجته ولم يعيدوه، أو يدلوا عليه. ولم يشكل الاغتراب في دنيا العرب ملاذا يبلسم الجروح، أو يطهّر الروح، أو يفتح الآفاق نحو مستقبل لا توأد فيه الأحلام وتزهق فيه الأرواح. أخشى القول أن الدكتور حاتم قد تأخر كثيرا في اتخاذ قراره الصائب، بإزاحة عبء الوطن الجاثم فوق كاهله، وارتضائه صورة محلوم بها في الغربة. لقد أصبحت أكثر مدننا أشبه بملاّحات لا ينبت فيها زرع ولا يمتلئ فيها ضرع. تخرج فيها النقائض من تحت عباءة واحدة. كأن النخب والعامة قد عجنوا من الطينة عينها. بعضهم سكن الدواوين واكثرهم احتل الميادين. وكل مدينة عربية تستبطن في جنباتها مجزرة. وهل ننتظر غير هذه النتيجة، عندما يظن كل من يحمل منشارا أن كل الواقفين أمامه أخشابا؟ ما يجري في هذه الملّاحات ليس فيلما سينمائيا، لكننا نتابعه أحيانا ـ بفضل “المالتي ميديا” ـ كواحد من أفلام هوليوود عن الغرب الأميركي (أفلام رعاة البقر ـ الكاو بوي) قبل قيام الدولة المدنية الحديثة الجامعة. كانت سلطة الفرد، أو المجموعة، في ذلك الزمان تصل إلى المدى الناري لسلاحه والمسافة التي يستطيع أن يبلغها حصانه. شيء شبيه يجري في ديارنا الآن. كل صاحب سلطة، أو كل مشتبه في حقه بالسلطة، يجعل من نيرانه طريقه إلى الأمام. يطارد الجميع، ويطارده الجميع، في كل ركن، وكل زنقة. لا تستحق الهجرة إدانة، خصوصا في هذا الزمن. لقد كتب الكثير عن الهجرات السابقة، التي جرت من مجتمعات عربية عديدة باتجاه الغرب الأوروبي والأميركي. تحدث علماء وخبراء عن مسألة الانسلاخ الثقافي التي تتسبب بها الهجرات. توسع آخرون في تبيان أسباب ومخاطر هجرة العقول العربية. نزيف الأدمغة كما أسموه. لكن الجرح لم يندمل لحظة طيلة القرن الماضي، ومطلع هذا القرن، بحسب ما يبيّنه الوعي المباشر. كل من خرج من دياره، من بيته، من عمله، من حقله، من جامعته، أخرج مطرودا. نمت الهجرات السابقة وأنمت. حققت رصيدا ثقافيا واقتصاديا وعلميا مشهودا. أنشأت جسرا للحوار والتلاقي مع الآخر.. لكن جسرها باتجاه الوطن الأم كان محكوما بقانون الطرد إياه. لا نلوم الدكتور حاتم الصكر على قرار اتخذه من أجل مستقبل أسرته، بل نقول له: مبروك. ونقول لأنفسنا: رافقتنا السلامة...