تضع القاصة اليمنية الشابة سماء الصباحي لمجموعتها القصصية الثالثة عنوانا استباقياً موجّها للقراءة بقوة: “أنّات قصيرة جدا”، وهو عنوان يزاوج بين الدلالة والفن: أو محتوى السرد وشكله. فالأنّات توحي بموقف من الحياة والواقع، بينما وصفها بالقِصر يكشف للقارئ ما اختارته الكاتبة للتعبير أو إعادة تمثيل تلك الأنات، وهو شكل القصة القصيرة جدا. حين أصدرت سماء مجموعتها الأولى “اختيار” عام 2005 أوحت بعض الكتابات حولها بأن القاصّة في طريقها لكتابة رواية، احتكاماً لنزعتها الواقعية آنذاك، وحرصها على التفاصيل وتعقّب المصائر والنهايات، وأخلاقية خطابها المنحاز للمرأة كنوع وتصوير معاناتها وما يتسلط عليها من إكراهات ومحددات، لكن سماء عكس تلك التوقعات ستوغل في تجربتها القصصية التي وجدتْها ملائمة لرؤيتها؛ لتصدر مجموعتيها اللاحقتين مكرستين للقصة القصيرة التي تعاني من التهميش، لحساب صعود الرواية وتداوليتها اللافتة عربيا في العقود الأخيرة كتابةً وقراءة. عتبات كثيرة تحف بالمجموعة وتؤطر محتواها، بدءاً من العنوان، وامرأة بيكاسو الساهمة الجالسة في الغلاف مقيدةً بخيوط حول يديها وقدميها، والأنّة التي تتصدر القصص بدون عنوان، وكأنها قوس ينفتح ليضم القصص: “لكلٍ منا أناته/ ينزفها بصوت/ أو/ يصرخها بصمت/ و..كلاهما مؤلم”، بينما ينغلق القوس بأنّة “شاردة من المتن” آخر الكتاب، وكأنها نهاية الوجود الإنساني نفسه فيكون مصير السرد مصيرا للفرد: “الإنسان:/ مبتدأ مرفوع بالصراخ/ وخبر ينتهي بالسكون”، وعبر موقفَي الصمت والصراخ تتأرجح قصص المجموعة التي تقسمت خطياً بشكل متوازن إيقاعيا؛ فلكل أقصوصة ـ قصة قصيرة جدا ـ صفحة مستقلة. تتتابع الأنات على الورق، وكأنها تمثيل بصري لصعودها من الصدر. وإذا كان الصمت مصير الحكي والبشر في المجموعة؛ فإنه لا يؤشر سيميولوجيا إلى موقف الكاتبة ـ كما ذهبت بعض القراءات النقدية للمجموعة ـ بل إلى رفض ذلك الصمت المفروض على الإنسان، والموت سهوا كما يحصل في إحدى الأقاصيص فيغلق الشخص عينيه توقيا من أشعة الشمس، لكنه ينسى أن يفتحهما ثانية. ولا تجدي المحاولات العبثية للتغيّر: “غيّرتُ من ملامحي، لتخفيَني../ فأظهرتني أكثر”. ولقد كان الدافع لطغيان التأمل على النصوص هو شكل الأقصوصة، وقربها من صيغ الحكم والأمثال في إيجازها وقوة دلالتها واعتمادها المسكوت عنه والمحذوف. لكن تقسيم الأنات وفهرستها يقوي الدلالة فقد توزعت الأنات على أربعة أقسام يميزها المضاف إلى الأنات: “أنات..(ها)/ أنات..(نا)/ أنات..(هم)/ أنات..(الأشياء)”. ويلاحظ خلو التقسيمات من أناته ـ المضافة لضمير الغائب ـ وربما أمكن تعليل ذلك باندماجها بأنات الجماعة (نا) أو أنها مقصودة لخلط الذات والآخر. وأحياناً تطول الأنات لكنها تعرض للقراءة كصرخات تذكّر باللبوة الجريحة، فالأنة صوت واحتجاج بالغ الدلالة والألم معا.