يشكل الاهتمام بالكتب القديمة نزوة من نزوات الاتصال بالماضي، أفتح كتاباً بالصدفة فأجد خطوطاً تحت بعض العبارات، أو تذكرة قطار، أو حشرة جافة، وكائنات صغيرة بيضاء تسكن الكتاب كبيت ومأكل؛ فالكتاب هو مرعاها الأخضر الفسيح. أقلِّب الصفحات متأملاً الحياة والموت معاً، وارتباطهما بتوارث المعرفة، تورثاً جزئياً ومحض صدفة يقتضيها دائماً اختلاف الظروف من مكان إلى آخر، وزمن إلى آخر. وتتفتح أسئلة كثيرة أهمها: هل تتحلل الأفكار كما يتحلل جسدنا متحولاً إلى عناصر أولية؟ تتجاور الكتب القديمة مع الحَدْس، باعتباره الوظيفة المُثلى لتخدير الروح، وبالتالي تمارس حضورها كأموات مستقبليين، ولسوف تُقرأ مرة ثانية وثالثة وإلى الأبد، سوف تخضع لمبضع آخر، لكنها أولاً وأخيراً مُنتهية سلفاً، وجُلّ ما يحدث أنها كانت في يوم ما نحن، وستظل كذلك مع استمرار خفوت آلية تفاعلها مع الحاضر، إلا بما يُمكِّنها من خلال حاجة آخرين إليها باستعادة أجزاء لتوظيفها بشكل غير ما كانت عليه كليتها. ليست الكتب القديمة فقط هي التي يحدث معها ذلك، بل كل ما هو قديم ومُتَمركِز بقوة بغرض إحيائه من جديد. يقول لنا القديم دائماً وبإلحاح وبلا تململ: أنا هنا. أنا هنا أريد أن أعيش، وسأعيش. لكن الأمر بالطبع لا يخضع لرغبة صيغة المتكلم اللحوحة تلك، بل هو متعلق بالحياة ضمن مستويات متعددة، تحكمها أبجديات أخرى، مثل من يموت فتنصب له الذاكرة تماثيل وأخباراً وذكرى وفاة... إلخ، ومن يموت ولا نعلم أي شيء عنه، فيدفن في مقابر الصَدَقَة. أغلب الكتب القديمة التي كنا نقرأها، مسماةً بأسماء مُقتنيها القدامى، ومذيلةً بتاريخ يوم شرائها. لقد باعها أبناء أو عائلة صاحب تلك الكتب بعد موته، وهذه سُنَّةٌ من سنن اختلاف وظائف الحياة، إذ تختلف المادة باختلاف الحاجة إليها. دعت الحاجة إلى لفظ الميت، لأنه انتفى من حيز الممارسة الفعلية للواقع الاجتماعي، وبالتأكيد تم توزيع ملابسه، والنظر في أوراقه وخزائنه بعين الفائدة وعين التخلص مما لا يفيد. لقد تم تقليص حجمه، وسيعيش أناس ورغبات أخرى مكانه. والكتب، تلك العائق المكاني – في أغلب الأحيان - يكون مصيرها البيع بطرق متنوعة؛ بالتبرع بها، اتلافها، تجاهلها.. إلخ. ستترجم إلى مال أو إلى أخذ وضعية غير ما كانت عليه عند صاحبها الأساسي، لكنها ستواصل سيرتها الذاتية من خلال مشهد آخر، ستتنفس بطريقة أخرى، بعضها يُحرق، وبعضها يستعمل للف بضاعات صغيرة، وبعضها سيُعاد مع المزابل إلى خامات أولية، وبعضها تطير منه صفحات في الهواء والبعض سيجد طريقه إلى قرُّاءٍ وحَفَظة جدد، ... وهذه المسألة لا تخص أي فكرة للاتصال بين الأجيال، بقدر ما هي أحد تحققات الوجود لذاته. eachpattern@hotmail.com