للقارة الأفريقية مع الدول الأوروبية حكاية وتاريخٌ. لكنها تظل، في جميع الحالات، حكاية صراع مدوّخ بين الرغبة في التسلط والإصرار العنيد على التحرر. مثّلت أفريقيا في وعي الأوروبيين ولا وعيهم أيضاً أرض الزنوجة. وللزنوجة في المتخيل الغربي دلالات على الدونيّ والبدائيّ. فلقد عَدّ يونغ الزنجيَّ “تمثيلاً للظلّ، وللغرائز المكبوتة، وللمنطقة المعتمة من الشخصيّة”. أما جورج روماي فذهب إلى أن الزنجيّ يرمز في المتخيّل الغربي إلى “الحياة البدائيّة في مقابل التمدّن التقني، والطبيعة في مقابل العمران، والفكر في مقابل العاطفة”. لقد مثّلت أفريقيا بالنسبة إلى الأوروبيين، منذ نهاية القرن السابع عشر حتى أواسط القرن التاسع عشر، أرض العبيد. فقام تجّار حرفة الشؤم هذه بنقل الآلاف من الأفارقة إلى أسواق “العالم الجديد”. وكانت أفريقيا يومها تندب حظّ أولادها دماً ودوعاً ولا تريد أن تتعزّى لأنهم ليسوا بموجودين. هذا النهم اللا إنساني المروّع سيبدّل من أقنعته في نهاية القرن التاسع عشر. حلّ الاستعمال بدل الاتجار بالعبيد. وكان لا بدّ من التسلّل إلى المتخيّل الأفريقي والثقافات الأفريقية بغية إحكام القبضة على البلاد والعباد. وليس لدراسة الحكايات الشعبية والخرافات والأساطير طريق لتحقيق هذه الغاية. لذلك عمد العديد من مثقفي أوروبا الغازية إلى جمع الحكايات الشعبية والخرافات والأساطير. قاموا بتدوينها ودراستها. وهكذا عرّي الأفريقي حتى من ورقة التوت. ثمة فجوة حصلت بين الأفريقي وذاكرته. ثمة غلالة مضلّلة أسدلت على كل ما تزخر به تلك الذاكرة من كنوز. لم يعد بإمكان الأجيال الجديدة التي نشأت بعد الاستعمار أن تتملّى ذاكرتها إلا عبر الوسيط الأوروبي الذي قام بالجمع والتدوين. لا سيما أن عملية الجمع لم تكن بريئة محايدة، كان الجمع انتقاء، والانتقاء مثّل بدوره نوعاً من الاستراتيجية التي تخدم مصالح الأوروبي الغازي، وتمحو ما تعتقد أنه يمثّل فرادة الأفريقي وثراء ثقافته. لهذا قلّ أن نعثر على نص إبداعي أفريقي اليوم لا يتشكّل مأهولاً بهذا البرق: تحرير الذاكرة المحجوزة. وتحريرها يتطلب العودة إلى الموروث الشعبي الأفريقي وتملّكه. يكفي مثلاً أن ننظر في نصوص الروائي السنغالي عصمان سوكي، وسنجد الرغبة في تملك الحكايات الشعبية على أشدها. نقرأ في روايته “كريم”: “كل سكان البيت اجتمعوا في الباحة ليستمعوا إلى حكايات أميناتا، على مهل كانت تحبك الأحداث، وعلى مهل تتصاعد بها نحو ذروة التأزم فالانفراج. كان يا ما كان، عجوزٌ تملك مالاً كثيراً. هكذا بدأت أميناتا حكايتها”. وعلى هذه الرغبة في تملك الموروث الشعبي جريان رواية الكاتب الإيفواري أحمدو كوروما “شمس الاستقلال”. فالراوي في هذه الرواية حكواتي يتوجه بالخطاب إلى الجمهور هكذا: “يبدو أنكم متشككين! لذا أنا أقسم لكم وأضيف: لو كان الهالك من الحدادين، ولو لم نكن في عهد الاستقلال، أقسم لكم أننا لن نجرؤ على دفنه في أرض بعيدة عن مسقط رأسه”.