يرحل الرجل الحكيم ليطوف في بقاع الأرض كلها بحثا عن الحقيقة التي لها ألف وجه ويقولها البشر بألف لسان، لكن معناها واحد لا يتغير مهما تبدلت الأزمنة أو انقلبت صفحات المكان. ذلك لأن المعنى يظل قابلا للتحريف تبعا للغة التي يقال بها. وتبعا للكلام الدارج الذي قد يمنح الدلالة اللغوية معاني متضادة وإن كانت تحمل نفس الحروف. لكن الحكيم لا تضلله ألاعيب اللغات ولا التفاسير الجاهزة المنسوخة من سيرة الأمم المنتصرة التي ترى أن من حقها تزييف التاريخ، بل عليه أن يجرب بنفسه وأن يقيس ويحلل ويجتهد ويتأمل في الصمت لسنوات، قبل أن يقرر ما هو الصواب وما هو نقيضه.
في الصحراء يتعرف الحكيم على معنى (الترحال) الذي تروي حكايته الرمال والتلال وأصداء أغاني الحداء التي تحملها الريح من مسافات زمنية سحيقة. لكن الترحال اليوم يتخذ مناحي وأشكالا مختلفة عندما تزاح من المشهد صور القوافل التي عبرت الصحارى لتحل محلها مشاهدات متقطعة لبشر يرتحلون في قطارات السرعة وطائرات البرق ويقطعون العالم في ساعات قليلة. إلا أن هؤلاء لا تنطبق عليهم صفة الترحال وكأن الكلمة قد حبست في الماضي وأصبحت تجريدا منمقا لفكرة قديمة قابلة للاستهلاك الأدبي والشعري أكثر من كونها دلالة على فعل معاصر. ولن يجد الحكيم وصفا لائقا لهؤلاء سوى كلمة (المتنقلون) كونها الأقرب شكليا لفعلهم.
في المدن يتوقف الحكيم أمام مشهد ناطحات السحاب المتراصة قرب بعضها في مكان واحد فيطلق عليها اسم (الحشد الحجري). لكن هذا المعنى ينزلق تدريجيا ويفرغ بسرعة من مضمونه، ذلك لأن الحشد الحجري هذا يضم في داخله حشد بشري. أي أن المادة الظاهرة في جمودها الخارجي تحمل في بطنها حياة صاخبة مشحونة بالتناقضات والصراعات والأفراح والدموع. وما سيقال عن الأبنية والعمارات بأنها مجرد زجاج لامع وتكتلات أسمنت فارغة لن يكون حقيقيا في نظر الحكيم لأنها في العمق عبارة عن أحياء كاملة، ولكن بشكل عمودي. أو أنها مئات البيوت المتراصة فوق بعضها. ولذلك، وقبل أن يغادر محنته مع اللغة سوف يسحب الحكيم أوصافه القديمة تلك خشية من وقوعه في فخ وضع الكلمات في غير مكانها. وسيقرر أن يطلق جملة فضفاضه ولكنها معبرة فعلا عن ما رآه بأن هذه القامات المنتصبة عبارة عن (ارتفاع الحداثة فوق صمت الأرض).
أخيرا، سيتوقف الحكيم قرب البحر مراقبا الشمس وهي تنزلق بطيئة في فم المدى الذي يبتلعها بتلذذ عظيم كمن يلتهم برتقالة كاملة. وسوف تتبدل بعد ذلك الألوان في انشقاق الأحمر من الأصفر وهجوم عتمة الغروب الشفافة على زرقة البحر لتكسوه بثياب سوداء. ولولا بزوغ القمر في منتصف هذه التأملات المتدفقة لقال الحكيم إن الليل والنهار (توأمان) يولدان من صلب الضوء ولكنهما لا يلتقيان أبدا. وإن الخيط الذي يفصل بينهما أقوى من أن يقطعه أحد.


akhozam@yahoo.com