هذه دعوة للسير إلى الوراء. للعودة إلى الخلف. للنظر عبر 600 سنة خلت، لكي نفهم هذا الذي يجري في الراهن العربي. نعم، فليقرأ العرب، مفكرون ومثقفون وعلماء اجتماع، ابن خلدون مجددا. فليقرأوه بمعايير الآن وليس المنصرم، الآتي وليس الفائت، وسيفكون عقد ما انغلق. صرف أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون (ولد في تونس، في غرة رمضان 732هـ الموافق 27 مارس 1322م، وتوفي في مصر في 26 رمضان 808هـ الموافق 16 مارس 1405م) جل حياته باحثا في أحوال السلطان والرعية، فتوصل إلى وضع قواعد علم الاجتماع السياسي، وتفسير التحولات التاريخية على ضوئها. ومن مفارقات الدهر، أو ربما من دلالاته، إن الحراك العربي الحالي الجاري بعمق، وبعنف، ما بين القاعدة والقمة، قد انطلق متقاربا من مسقط رأس ابن خلدون (تونس) ومن حاضنة مثواه الأخير (مصر). فالثورتان في هذين البلدين العربيين قدمتا أهدافهما بصياغات مختلفة، لكنها تلتقي كلها عند المقولة الشهيرة المنسوبة للعلاّمة الراحل وهي “إن الإنسان مدني بالطبع”. والغريب أن فكر ابن خلدون تعرّض من أبناء جلدته لمحاولات لنزع الريادية عنه، كان آخرها التهمة، غير الموثقة، التي رماه بها باحث مصري بأنه “لص” سطا على مقولات “إخوان الصفا” لكتابة دراساته الجذرية. وهي في كل الأحوال تهمة ضعيفة لم ترق إلى سيل الدراسات والأبحاث التي أعدها مفكرون عرب وهدفها الأول هو “مركسة” مؤسس علم العمران البشري. وتلك فرية لا تستقيم مع منطق. فالنسبة في هذا الموضع، لو جازت، ترد المتأخر إلى المتقدم زمنيا، وليس العكس. وبهذا المعنى، فإن الأجدر هو “خلدنة” كارل ماركس وليس العكس. ولعل أرنولد توينبي كان من بين كثيرين أنصفوا صاحب “المقدمة” بما يستحق حين قال: “ابتكر ابن خلدون وصاغ فلسفة للتاريخ هي أعظم ما توصل اليه الفكر البشري في مختلف العصور والأمم”. وهو المعنى الذي أعطاه إيف لاكوست تحديدا مباشرا بقوله: “ان مؤلف ابن خلدون يمثل ظهور التاريخ كعلم، وهو أروع عنصر فيما يمكن أن يسمى بالمعجزة العربية”. وإذ يسترسل الكلام على سيرة وقيمة ابن خلدون، الذي تحل ذكرى ولادته ووفاته هذه الأيام، تبدو أطروحاته أكثر عصرية من كثير من المقاربات التي تحاول تفسير الظاهرة العربية في الساحات ودواوين الحكم. فقبل 600 سنة حذر ابن خلدون من الخلط المتعسف بين السلطة والتجارة. قال في ذلك: “إن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا ومفسدة للجباية (أي لنظام الضرائب)”. وهو الذي نبّه من مخاطر الاستبداد. قال في ذلك: “الظلم مؤذن بخراب العمران”. وهو الذي دعا إلى تحرير الدعوة الدينية من العصبيات، وله في ذلك نص بديع عن أحوال الثوار “المنتحلين للعبادة” الذين “يكثر أتباعهم من الغوغاء والدهماء”، وتكون النتيجة المدمرة للدول. ويلاحظ هنا: “إن الأوطان الكثيرة العصائب، قلّ أن تستحكم فيها دولة”. وتتجلّى عبقرية الرؤية الخلدونية، عندما يوغل في تبيان الفروقات بين أهل الحاضرة وغيرهم. يتحدث هنا عن المجتمع المديني، بامتداداته وانكماشاته وجوره، فيشرح بتفصيل ما تسميه الدراسات المعاصرة التنمية الشاملة، التي تهدف إلى منع ترييف المدينة، ومساعدة المجتمعات الريفية على تحقيق مدنيتها. لا بد أن ابن خلدون كان يحمل في وقته منظارا يخترق الزمن لكي يدرس أحوال العرب في الألفية الثالثة.. بينما يقف المدى الحيوي لمناظير بعض الحكام العرب الآن عند حدود أنوفهم. adelk58@hotmail.com