تعطينا المدوّنات السردية العربية القديمة ـ حكاياتٍ وأخبارا ومسامرات ـ أمثولة على السلطة المتحكمة في الحكي والموجّهة لخطاب السرد؛ وهي بسبب ذلك تكشف هوية صانع الخطاب الحكائي، والقوة المسقطة عليه والسلطة المتحكمة في مجرياته وأحداثه، والمحددة لمصائره ونهاياته. فبينما تقع ألف ليلة وليلة مثلا تحت سلطة الخطاب الشعبي المتجسد في الحبكات والشخصيات وتسلسل أفعال السرد وأحداثه وخواتمها، تتراجع حكايات كليلة ودمنة لتبث وجهات نظر تقليدية محافظة، وبرامج حكي رسمية أو سلطوية بالمعنى المدني، حيث يفرض الحاكم أعراف المحكي ومساراته، لذا حين عاد السرديون المعاصرون لتحليل تلك الحكايات وبيان أنظمتها السردية لخصوا حكمتها أو جملتها السردية الدالّة بأنها (إحكِ تعش) في ألف ليلة وليلة، و(اصمت تعش) في كليلة ودمنة؛ ذلك أن محرّكات السرد في الليالي هي عناصر الخيال الشعبي الحر غير الممتثل لرغبة سلطة ما سوى الضمير الجمعي المتكون خارج القصور والوظائف الرسمية، لذا تعج حكاياتها بانتصار الفقراء وتغليب الهوامش وتعويض المحرومين بمكافآت سردية متنوعة، تتراوح في غرائبيتها بين اختراق الآفاق والتحليق والسفر والتحولات المكانية والزمانية الحادة، والعثور على كنوز وعطايا مخبأة تتراكم عليها أسباب الفقر أو الإقصاء في الواقع لكنها تنتصر عليها في السرد، فيعوّض المحكي عن فصول الحرمان التي يعاني منها شخوص الحكايات، ومن أبرزها حرية الكلام التي يخفيها القمع والعسف؛ فيطلقها الحكي، حتى يغدو الكلام مساوياً للحياة التي لا تحصل عليها شهرزاد إلا بمواصلة الكلام ليلةً فليلة. بمقابل ذلك تتموضع حكايات كليلة ودمنة المنتَجة تحت سلطة الحاكم وتقاليد الحكم في الامتثال لسلطة خارجية، فثمة دوما تحذير من (إساءة الأدب) في مجالس الملوك أو التهور في حضرتهم أو مناقشتهم، بل يركن ابن المقفع ـ معرّب الحكايات بتصرف كبير يقرّبه من تأليفها وإعادة صياغتها ـ إلى تشبيه الصلة بالحاكم، مرمزا له بالجاهل، بأنها كالقرب من النار: أخوف ما تكون حين تدنو منها، ولا يغرنك في تهوين خطرها قرابة أو علاقة. أما الصمت فهو وصفة الحكايات السحرية: كلما تكلمت دنوت من الموت، وهكذا فقدت السلحفاة مثلا حياتها لأنها تحدثت بالمنطق وهي تطير بمساعدة بطتين تمسكان حبلا من طرفيه؛ فسقطت على الأرض ميتة، وهذا المصير يتحكم في الأخبار والمسامرات حيث يفقد الشخوص ممتلكاتهم أو مناصبهم وربما حيواتهم لأنهم تكلموا، وهو السر وراء المبالغة مثلا في طباع الملوك الذين يكون لقاؤهم مقامرة بالحياة أحيانا كما في حال النعمان بن المنذر ويوميْ سعده ونحسه، فمصير ملاقيه يتحدد بما سيكون عليه الملك ذلك اليوم. لكن التحليل الأكثر دلالة في زمننا هو الذي يتأمل خبرا واحدا وقد روي من طرفين: شعبي ورسمي؛ فانكشفت الهويات وتباينت الأفكار بطرق السرد وكيفياته.