منذ أمد واللؤلؤ محور العيش في أبوظبي حين كان الظمأ يفوق الحد، وحين كان المحل يستشري في كل شرايين الحياة الجافة والموجعة، خيوطا من الصعاب والطرق الوعرة والخوف الجاثم على القلوب، والحياة الموغلة بالمجهول، حالة من التشظي والدوران المخيف، ومشقة البحث عن الرزق كأقل ما يرومه المرء.. هذه معالم الحياة ومفاصلها البيئية وسماتها الاجتماعية والاقتصادية وكذلك الثقافية، ليس في أبوظبي وحدها كمدينة أو كدولة بل في كل المجتمع الخليجي بمدنه وشعوبه. بين أيدينا كتاب عنوانه “أبوظبي واللؤلؤ قصة لها تاريخ”، وكأن به إن تحديات الحياة بدأت تثمر في زمن النسيان الذي طوى تلك الحقبة بكل تجلياتها. لذا كانت تلك الالتفاتة الكريمة من سمو الشيخ حامد بن زايد آل نهيان في إعادة قراءة ذاكرة الوطن من خلال حقبة اللؤلؤ المهمة والجديرة بألا تنس. ولم يكن العمل سهلا، وهو يتميز بالضخامة التي تنم عن فصول حياتية وتاريخية وجغرافية، وقد سخّر نخبة من الكتاب والباحثين والأدباء جهودهم، فتقدم كل منهم بعمله لتلتقي كما الجداول في مجرى النهر الكبير. فكان للدكتورة فاطمة المهيري الفضل في بلورة كل هذه الخيوط من الكتابات والدراسات لتقدم الكتاب بالطريقة المثلى. تفاجئك في كتاب “أبوظبي واللؤلؤ قصة لها تاريخ” تلك الفصول والدراسات التي تتحدث عن شواهد تؤكد ارتباط جزيرة دلما وعلاقتها بحضارة دلمون، وهي الحضارة التي نشأت في البحرين وهو ما ينتج جدلا تاريخيا وجغرافيا يبلور رؤية شمولية لهذه المنطقة. وقد استعرض الكتاب، أيضا، حضارة أم النار ومكاسبها التاريخية والثقافية، ثم تطرق الى الترابط التجاري ما بين سكان منطقة الإمارات وشعوب حوض البحر المتوسط وشعوب المحيط الهندي، أما الفصل الثالث فقد تطرق إلى العصر الإسلامي من خلال المعالم التي نسجتها الدراسات ودور الإمارات في انطلاق التجارة والفتوحات الإسلامية، وقد تلا ذلك فصلا عن دور الأوروبيين والاستعمار البريطاني، أما الفصول من الرابع إلى السادس فهي تتعلق بتاريخ أبوظبي الحديث وأهميتها كمدينة تاريخية واقتصادية من خلال جوانب مختلفة ومنها تجارة اللؤلؤ. لذا تأتي أهمية الكتاب بما يتضمنه من فصول مرحلية تؤرخ لحقبة مهمة، ويتفرد بالموسوعة الشاملة التي تحاكي نظم الحياة المختلفة وما يفضي من جزئيات اجتماعية كانت سائدة، فلم تكن فكرة تنضوي على حياة اللؤلؤ دون إفراز الحياة المحيطة بكل تجلياتها، إذ احتوى القصة والحكايات الشعبية والشعر وكل فصول الأدبيات الماثلة والتي لها تأثيرها على الحرفة. وضمن سياق الكتابة عن الحكاية الشعبية شرفت بلقاء أولئك الذين نحتوا ما بين صخور الحياة، أولئك الذين قبيل صدور الكتاب رحلوا عن الحياة تاركين حكاياتهم ما بين السطور، أحدهم صاحب قصة فريدة بحبه للبحر، ظل على ود معه حتى بعد ان فقد بصره، ظل يزور البحر ويتردد على أمواجه، يغوص في أعماقه كما لو انه مبصر، ظل يمارس حكايته مع البحر حتى لفظه البحر إلى حقبته الأخيرة.