أعتقد أنه مع انتهاء “الحرب الباردة” دخل العالم في مرحلة جديدة من الاستقطاب بين طرفي ثنائية ضدية، ثقافية بقدر ما هي سياسية واقتصادية بالتبعية. كان الطرف الأول هو الذي تمثله العولمة التي شهدنا توحشها مؤخرا، والطرف الثاني هو التنوع الثقافي الخلاق. أما العولمة، فتبدأ من الاقتصاد، ولا تفارق الثقافة، هادفة في كل الأحوال إلى فرض نمط واحد على كل دول العالم؛ أولا نمط اقتصادي يقوم على حرية رأس المال الذي لا يفارق الاحتكارات الأخطبوطية، وثانيا نمط حضاري علاماته شراب “الكوكاكولا” و”الهامبرجر” أو “الماكدونالدز”، وذلك في نوع من التنميط، أطلق عليه “كوكلة العالم” و”عالم ماك” وغير ذلك من شعارات أصبحت عناوين كتب. وقد سبق لي أن قدمت ترجمة “عالم ماك” من خلال المشروع القومي للترجمة. ومن المشاهد الظريفة التي لا أنساها، في آخر زيارة لموسكو، ما وجدته من طابور، يصل إلى ما يزيد على ميل من الواقفين، وعندما سألت اكتشفت أنهم يتزاحمون على شراء آيس كريم “باسكن روبنز” الأميركي وتعجبت، لأني كنت، ولا أزال، أجد طعم “الماروجنا” الآيس كريم الروسي ألذ من “الباسكن روبنز”، ولكنها مباهج العولمة الزائفة، عندما تأتي بعد سنوات طويلة من القمع. أما الطرف الثاني فهو التنوع الثقافي الخلاق الذي تبلورت أهدافه من خلال منظمة اليونسكو في السنوات التي تحررت فيها من أسر الولايات المتحدة. والتنوع الخلاق يقوم على مبدأين نقيضين لمبدأي التنميط: فرض نمط واحد والتوحيد البشري لكل من الاقتصاد وأشكال السياسة والثقافة في العالم. وتنطوي أفكار التنوع الخلاق على الإيمان بضرورة التعاون والتفاعل والاعتماد المتبادل بين الشعوب، وإلغاء المبدأ القديم عن المركز والأطراف، وتحويل كل العواصم إلى مراكز متكافئة، لا ميزة فيها لأحد على أحد إلا بالعطاء الذي يهدف إلى صالح البشرية وفي الوقت نفسه الإعلاء من ثقافة الحوار التي تقوم بالتقريب بين الشعوب، ويضاف إلى ذلك مبدأ الاعتماد المتبادل، خصوصا في الأخطار الطبيعية الكبرى التي لا تستطيع دولة واحدة أن تواجهها بمفردها، وأخيرا، ما يترتب على قبول التعددية واحترام الاختلاف واحترام الخصوصية الثقافية والهوية الحضارية، فكل أمة لها تاريخها الثقافي وتراثها الحضاري الذي تتميز به عن غيرها، وهو ملكها من ميراثها النوعي الذي صنعته أجيال وأجيال من الأسلاف عبر عصور متطاولة، وهو ملك البشرية في الوقت نفسه، لأنه من صنع أمة تتصل بغيرها في علاقة الإنسانية التي تجعل من أبناء الكوكب الأرضي عائلة واحدة متشعبة الأجناس، مختلفة في الصفات الظاهرة، لكنها متحدة في الجوهر وفي البعد الإنساني الذي يقارب بين أبناء الإنسانية، ولهذا فإن احترام كل تراث إنساني، والحفاظ على كل ميراث حضاري وإبداعي هو حفاظ على التراث الإنساني والحضاري للإنسانية جمعاء، فالتنوع مصدر غنى والتعدد علامة ثراء للإنسانية التي جعلها الله شعوبا وأوطانا لتتعارف وتتحاور وتتبادل النفع والتعاون دون تمييز أو استعلاء أو استغلال، ودون مركز وأطراف، فقد انتهى ذلك كله عند العقلاء على امتداد العالم.