في عقود الزمن الأربعة الأخيرة، اتسعت المساحات، وتوافرت وسائل الاتصال، وازدهرت الأمكنة، بقواطع الطريق المذهلة، وعابرات السمع المبهرة، وصار من السهل أن يكون الإنسان في بقعة من الأرض تبعد عن موطنه مئات الكيلومترات، خلال ساعات والتي كان يقضيها بأيام وأسابيع.. صار بوسع الإنسان أن يلتقي بصاحب وصديق، دون مشقة أو عناء سفر، أو وعثاء أو غبراء، والبيوت التي كانت لا تتسع لأكثر من شخصين، ويمثلها أكثر من عشرة أشخاص، أمست تتربع على مساحات شاسعة، وبنيان مرفوع، حتى مد البصر، وامتداد السحب، هذه المروج، هذه البروج المشيّدة، ترتع وتسطع، بكل ما يتوخاه الإنسان من مشارب البذخ، والفخر والاعتزاز.. ولكن.. وهنا يكمن الشرخ، وتحل النقمة في غضون وأتون النعمة.
الإنسان، هذا الكائن الاستثنائي المتفرد في تطيّره، وتحديه، وتطوره، وتوقه باتجاه، كل ما يغري الروح، ويشخب الفؤاد، ويطحن الجسد.. الإنسان الذي كان لم يعد كائناً في زمان، انقشعت فيه مزن وهطول، وغشَّت العيون سحابات غاشية، قاشية، تجلد الأنفس بسياط من عذابات، وانحطاط كوني لا مثيل له.
بعد أربعة عقود من الزمن، يغيب القمر وتتوارى النجوم، خلف ضياء مصطنع، كما تأفل الإرادة الواعية بقيمة العلاقات الإنسانية.. يقول لي صديق، توفيت والدته قبل فترة “رحمها الله” يقول: إنه استغرب من بعض الأصدقاء، والأصدقاء المقربين، أنهم اختصروا المسافة جداً، بل وابشروا الزمن، حيث كانت تعازيهم، تأتيه عبر المسجات، وقال مندهشاً: كيف تحوَّلت الحال، وتغيَّر الناس، واضمحلَّت المشاعر، وصارت النفوس اليباب، لا تُعنى بشيء اسمه العلاقات الإنسانية.. ثم يفسر الصديق هذا السلوك قائلاً: بطبيعة الحال، فإن الانفجار الكوني الذي أصاب الروح الإنسانية، بفعل طغيان المادة، سجل رقماً قياسياً في الجفاء، وانتماء الإنسان إلى حالة التشرذم الكارثية.
لم يعد اليوم، مفهوم العلاقة الإنسانية مطروحاً، بين كثير من الناس، والسبب لأن المادة عندما تكون هي الهوى، فإن الروح تتلاشى، مختبئة خلف ركام هزائمها، ويصبح الإنسان كائناً أجوفاً، معطوب المشاعر، تخطفه المادة نحو غايات البؤس، والشقاء اليومي، واللهاث المجاني دون جدوى ومن غير إرادة.
فعندما تضيق الصدور لا ينفع اتساع الساعات أو ارتفاعها.. والله المستعان.


marafea@emi.ae