حين تتصالح المدن مع حالها، ولا تترك فراغاً في جدرانها ينفث فيه محبو الرماد، مبغضو النور، تبقى زاهية بنفسها، مباهية بأبنائها، مخلصة للمخلصين، وتواقة دوماً لصنع بسمة للمتعبين أو بريق أمل للمترددين، هكذا كلما دخلت أصيلة رأيتها جميلة، وموطن الجمال قد تدركه حين ترى عجوزاً تخم الطريق المؤدي إلى بيتها، وإن وصلت عند بيت الجيران، لم تزعجهم بصوتها، ولم ترد أن تعلمهم أنها نظفت ساحتهم بهدوء، لأنها تحب مدينتها وتحبهم وتحب النظافة في كل الأشياء وفي كل الأماكن، فتقوم المدينة لهذه العجوز احتراماً لشخصها، وإجلالاً لعملها، فتكرمها في حفل المدينة السنوي.
لما نرى الجمال والأصالة في أصيلة؟ لأنها تتذكر أقدم صياد فيها، عرف بحرها كراحة كفه، وعرف أهواله، وذاق من خيره، وهو اليوم يكتفي من البحر بزرقته، وذكرياته معه، لكن المدينة تشاطره حديث آخر أيامه، وتعلمه أنها تتذكره، فتقدم له العرفان هدية حفلها السنوي.
لماذا أصيلة جميلة؟ لأنها تبحث كل عام عن أم مثالية شقت وربت وجالدت الحياة وأيامها، وأعطت للمدينة رجالاً صالحين ونافعين، فتكرمها، وتطبع قبلة على رأسها، ولأنها تقدّر كل من يعمل بيده، ويحافظ على مهنته المتوارثة، ويطورها لتعيش مع الزمن والناس الجدد، لذا لا تتوانى أن تقبل يد الإسكافي، لأنها يد خير ونعمة ورزق شريف، ولأنها لا تزال تتذكر لاعب فريقها لكرة القدم حتى بعد أن صار يمشي على عكازة، فصورته القديمة، والهتافات له ولأمجاده، أسمعتها إياه في حفل تكريمه هذا العام.
تقولون لما هذه المدينة الصغيرة عظيمة؟ لأنها تبحث عن مواهبها الصغار، وتدفع بهم وتشجعهم، وتفتح لهم آفاقاً لكي يبدعوا، وتتوج في نهاية احتفالاتها طفل العام المبدع، وطفل العام صديق البيئة، ولأنها تحتفل بنجاح وتفوق طلابها في شهادة الثانوية العامة، وتوفر لهم ما قد يساعدهم على اجتياز عتبة الجامعة وأول مدخل للحياة.
تعرفون لما هي أصيلة وجميلة؟ لأنها تزور البيوت بيتاً.. بيتاً، وترى ما يفعل الزرع في المكان، وكيف الحديقة تلون المنازل، وتضفي عليها هالة من الجنان، فلا تنسى ذاك البيت، ولا صاحبة ذاك البيت، فتعلي ما فعلت، هي وأولادها، وتعلق على صدرها وسام التقدير، ويغدو بيتها محجة طوال العام، ليتعلم الناس فن هندسة الحياة، وكيف يكون اللون الأخضر عطر الجدران.
تدركون لما غدت هذه المدينة جميلة وأصيلة؟ لأنها تهتم بما يصنع أبناؤها من فعل الخير والعمل الصالح، وتفرح حين يسخرون طاقاتهم لابتكار شيء مفيد للناس أو مساعدة الغير في تجاوز محنة أو التغلب على معضلة، فلا تتوانى أن تأخذ بيد جمعية أهلية مكونة من أساتذة مهمتها تقديم التعليم للمعوزين، ودروس التقوية للمخفقين، فترفع لهم قبعتها، ولا تعرف كيف تجزيهم!


amood8@yahoo.com