من الرسم على جدران البيت إلى جدران الكهوف، إلى التخيل، إلى محاولة إيجاد أسطح عدة، من القماش إلى الورق، إلى الأرض؛ رملية كانت أم ترابية، أسفلتية، حجرية. لا حد لتنوع الأسطح؛ إذ لا حد لتحولات مواد الأرض الرؤوم. هكذا تؤسس نعمة البصر لنفسها مجالاً يتركز على أرشفة المرئي، ومنذ بداية رسوم الكهوف، بل وما قبلها، والإنسان يختبر وجوده في كل الأبعاد الممكنة، بُعد أول، بُعد ثان، ثالث، عاشر، أبعاد مرئية وأكثر منها مخفية. ولا ننسى أن أول أثر ممكن لرسم شيء؛ يفترض أن يكون آثار المَشْي على الأرض، بأربع أو باثنتين. إن التحضير البيتي واليدوي لسَطح بُغية الرسم عليه؛ يشبه فيما يشبه نزول الإنسان على سطح القمر، أو لنقل عما قبل ذلك، والمعني هنا نزول الإنسان الأول على الأرض. فالتهيئة تَلزم للهبوط على مكان قليل المخاطرة، وهكذا فإن القماش الذي يصنع منه الأشرعة والخيام، هو أيضاً الذي يُجهز بدهانات معينة؛ لتهبط عليه يد الفنان وأفكاره. وقد اشتُهِرَ قماش الرسم عربياً لدى الفنانين بكلمة إنجليزية أُستُعربت كما هي، «Canvas»- كانفاس. كنتُ أستمتع بصناعة القماشة التي سأرسم عليها، فعملية ولادتها تبدأ مما قبل الصفر، حين توجد الرغبة في الرسم، وتكون فكرةً جمالية غير مُدركة بعد، مما يدفع بالبدء في صناعة سطح من القماش. تأخذ عملية التحضير وقتاً طويلاً كعلاقة الفلاح مع الوقت حين يزرع، فأنتَ بحاجة إلى الذهاب إلى السوق لشراء القماش، والمواد التحضيرية التي ستقوم بخلطها بنسبٍ معينة، ومن ثم دِهان سطح القماش وتركه يجف. ستحتويكَ منذ البداية رائحة العمل الفني القادم، مع كل هذه الخامات الأولية، التي ومن بعد جفاف سطح القماش، تبدأ بشّدِّه على إطار خشبي تكون قد قمت بتحضيره أيضاً، ذهاباً إلى سوق الخشب أيضاً وتقطيع الأحجام بالأطوال التي تريدها. كل شيء يختلط مع أفكارك، عما تريد أن تقترفه على الـ»كانفاس». إنها عملية أنتَ فيها الصانع والفنان، من الصفر إلى المالانهاية، لذلك فبعد انتهاء اللوحة وظهورها كعمل فني؛ تنشأ لديك أحاسيس علائقية تتجاوز ما نراه ويراه الآخرون على السطح، إنها مغامرة كاملة لا يساعدك فيها أحد إلا الحرص على أن تكون علاقتك بما تفعله منذ البداية علاقة «إرهاصية»، لأنك في كل مرحلة في حالة تَحَفُّز لما بعدها، وكل مرحلة تشكل إشارة لما بعدها. هذا العالم من الخامات، هذا العالم من لحظاتِ الإعدادِ المتفاوتةِ حيواتها؛ حتى أنها تشير بكل هدوء وبساطة إلى التكاتف الاجتماعي بين كل الطبقات في عقل وقلب وجسد وروح الشخص نفسه، يُفَكِّر ويَصنعُ ويُخطط ويوُلِّف ويفكر ويرسم ويؤطر ويعْرض، هذا العالم من البناء الساحر لخلق حيز عائلي خاص بين الفنان وأشيائه، يعرض علينا دائماً التأمل في ماهية الآخر، ومدى قُدرتك قبل قدرته على تبادل ومواجهة عنفوان الحياة. أليس العمل الفني طاقة ووجود مُتحققين سلفاً، وبجاهزية عصامية تُنبئ بها دوافعنا للتعبير عن مخازن الظلمات بداخلنا، إذ لا يكون علينا وقتها؛ إلا أن ننساب لنرسل نظرة إعجاب، أو قُبلة. eachpattern@hotmail.com