تبقى المقاعد على حالها. تُشغَلُ أو تَشغُرُ تبقى على حالها. تستقبل المتعب والراغب والطمّاع. يستلقون أو يسترخون أو يتحفزون، وهي على حالها. يحكون أو يصمتون، يغضبون أو يحلمون، ينفرجون أو ينفجرون، وهي على حالها، ثابتة، صامتة، ومستعدة لاستقبال كل جالس طارئ أو أصيل. تبدأ حياتك من فوق مقعد. مقعد دراسي يسمونه. يأخذ نصف عمرك ويمنحك النصف الثاني. لم تكن مقاعد المدارس (والجامعات) وثيرة. لم تبادر جليسها بحميمية من أي نوع. فهي ليست جزءا منه، ولن تكون. سيغادرها بعد حين إلى مقعد آخر، في فصل آخر، وسنة جديدة. يرحل هو، وتبقى هي.. يستقبلك مقعد في حديقة. تختاره في ركن قصيّ. أنت هنا تمارس نوعا من الانتهازية غير السافرة. فاختيارك للمقعد لم يكن من أجله، بل من أجل المكان الذي يحتويه. من أجل تلك الأشجار التي تحتضنه كجدة عجوز مع حفيدها. تنتخب العزلة أنت، لأنك تريد أن تثرثر، فتجعل من نفسك ناطقا بلسان كل عناصر الطبيعة المحيطة. تتحدث باسم كل شجرة، وكل شتلة ورد، وكل عصفور يبحث عما ينقره. وعندما “يخلص” الكلام، تطلق العنان لخيال مقعدك. تسرق من نزار كلماته وأنت تقول لها: “دعيني أترجم بعض كلام المقاعد وهي ترحّب فيك”. تصدّق أنت، ولا تصدّق هي فتغادرك إلى حيث تسمع كلاما آخر.. وتغادر أنت المقعد الذي اخترته إلى مقعد جديد، لا تعرف هل سيحتويك أم سيلفظك؟ حينما تلج إلى ذلك المرجل الذي يسمونه الحياة، سوف تخذلك المقاعد كثيرا. ستجد أنك منغمس في “لعبة كراسي موسيقية” لا تتوقف. عدد المقاعد فيها، دائما أقل من عدد اللاعبين. عليك أن تضبط إيقاعك مع نغمات الموسيقى، سواء كانت شيّقة أو منفّرة. تدرّب نفسك على أن تكون مستعدا، مستنفرا، متحركا، مبادرا، مهاجما، مقتنصا لكي لا تصبح خارج اللعبة الهمجية. تدمن المقاعد أنت من دون أن تنتبه. تصبح أسيرا لها، من دون أن تعترف، أو حتى من غير أن تبرهن لمقعدك اليومي عن نيّة بالتقدير أو شبهة احترام. ترتمي فوقه في المكتب برتابة ممضة. تشرب القهوة، تكتب، تتواصل، تنجز ما عليك.. ثم تغادره بإهمال. ولا تبدو أفضل حالا مع مقعدك الدائم في المقهى. لا تعرف بالضبط لماذا اخترته أول مرة؟ لماذا تصر على الجلوس في الركن نفسه؟ لماذا تصاب بارتباك إن وجدته مشغولا؟ تدرك النادلة ما أنت فيه، فتبادر هي إلى التواطؤ معك، فتحجز لك المقعد المختار قبل قدومك، لكي تتمم عاداتك اليومية. تقرأ، تثرثر، أو تكتب مع قهوتك المرّة، ومن ثم تغادر مقعدك بإهمال. ولا يسلم من هذا الإهمال المقعد الذي ثبّته بعناية أمام التلفاز ومحطاته الإخبارية المستفزة. تتابع من فوقه ما يجري في الميادين والساحات والجبهات. تحصي أعداد الناس الغاضبين أو المضروبين. تتفاعل مع السجالات والمتساجلين. تتتبع خطوط الدم النافرة من الأجساد. تطل على الشوارع والعمارات المحترقة. تتوتر، تغلي، تغضب، تلعن، ثم على حين غرّة يشد انتباهك المقعد.. تحس أنه بات ثقيلا عليك، أو أنك ثقيل فوقه. أصابك بتشنجات مزمنة. لا بد أن تغادر.. ولكن، مهلا، ما الذي سيحل بذلك المقعد الذي اقتنصه، في ليل، رجل مدجج بالنياشين ويرفض أن يغادره.. adelk58@hotmail.com