إني على استعداد لكي أفتح نوافذ بيتي لكي تهب عليها الرياح من كل حدب وصوب، شريطة ألا تقتلع الرياح جذور بيتي وأسسه. هذه العبارات الدالة منسوبة إلى غاندي، ومثلها كثير من العبارات التي تريد أن تصل إلى النتيجة نفسها، وهي كيف تصل دول العالم المتخلف إلى مصاف التقدم؟ وكيف تنتقل من واقع التبعية إلى واقع التحرر من الهيمنة؟ ومن الدال أن العبارة التي قالها غاندي صدرت من زعيم روحي لبلد كان غارقا في التبعية، مستعمرا متخلفا، حلبت الإمبراطورية البريطانية كل ضروعه، قبل أن تفارقه رغما عن إرادتها، وتركته غارقا في ظلمات الجهل والخرافة والتخلف، ينوء بما يحمله على كاهله من عبء انفجارات سكانية، وقد أصبح هذا العالم القديم، اليوم، جديدا، استطاع أن يحيل عبء التزايد السكاني إلى ميزة، ويستبدل بالتخلف الاقتصادي التقدم الذي يجعله يتميز إلى أبعد حد فى صناعة تكنولوجيا المعلومات، ويصبح قوة صناعية تتطور يوما بعد يوم، ولم تعد تنتمي إلى العالم البائس الذي لا نزال نرسف في أغلال تخلفه واستبداده وجهالته وإذا سألنا: كيف تحقق ذلك؟ وجدنا مفتاح السر في كلمات غاندي. لقد فتحت الهند نوافذها على العالم، وتعلمت أسرار تقدمه السياسي المرتبطة بالدولة المدنية، وقرنتها بالديموقراطية القائمة على تداول السلطة، وارتفعت بمستويات التعليم، وفتحت آفاق انفتاح ثقافي، لا يقل عن التوسع في عدد البعثات، واختارت من ألوان صناعات التكنولوجيا ما يمكن أن تتفوق فيه، وأتاحت حرية الرأي والتعبير في ظل دستور هو من أرقى دساتير العالم وأكثرها تأسيسا لدولة حديثة، وأحالت الكثافة البشرية إلى قوة هائلة في التصنيع، فأصبح عندها اكتفاء ذاتي في صناعة السيارات، فيما أذكر من زيارتي للهند، ولا تزال الهند تغزو دول العالم الخليجي بأفلامها، وتحول الفائض السكاني إلى عمالة يتم تصديرها إلى أقطار العالم، خصوصا دول الخليج، وهي عمالة تتحول إلى مصدر مضاف للدخل القومي. ولا تزال الهند محافظة على مبدأ الشفافية، والمتابعة القانونية لأي شكل من الفساد، وهي إحدى الدول التي أحالت تراثها الحضاري إلى مزار عالمي جعلها من الدول التي تشكل السياحة مصدرا مهما للدخل فيها. والحق أن ما وصلت إليه الهند هو نموذج قد يكون أقل سطوعا من غيره، فيما أسماه محبوباني، نصف العالم الآسيوي الجديد، وهو عالم نجا من التبعية، ونجح في تحقيق صيغ من التقدم التي تصل بين الأصالة والمعاصرة، ولا تتجاهل هوياتها الثقافية أو خصوصياتها الحضارية، وهي صيغ أثبتت كذب المقولات الرأسمالية الغربية التي ظلت تخدع دول العالم الثالث كثيرا، وهي تؤكد أنه لا طريق إلى التنمية سوى الطريق الذي يخضع لمواصفاتها، والذي لا تزال تصدره لكل دول العالم، موهمة إياها أن طريقها للتنمية هو الوصفة السحرية التي تقدمها لكل الناس. ولحسن الحظ، لم تظل دول العالم الثالث مؤمنة بهذا الوهم، فسرعان ما نبذته مع اكتمال وعيها بالتحرر الكامل الذي هو حقها الطبيعي في الحياة، وهو الأصل في اكتشافها طريق المستقبل.