للقراءة - كما سيظهر كُنْهُهَا في الآتي من كلام - فتنة لا تطالها القراءة كَوعي معلوماتي، أو كحضورٍ تنظيمي للحياة. ولتلك الفتنة زمن واحد، حين أبدأ التعرف على الوجود فيما قبل المراهقة، وما بعدها، إلى أن تم إشباع العقل بعدة مقتضيات جَمالية، وإحمائه بالكثير الكثير من الإجابات على أسئلة هي أسئلة بعلامة استفهام، وأخرى هي ليست أسئلة, بقدر ما هي غيوم نأكلها كالطعام في أصحننا كل صباح. كانت تتغذى الفتنة تلك على ما يشبه الأساطير، حين يذهب “المرء” في مغامرة يتغلب فيها على كل الصِعاب السبع: النساء والجبال والبحار والأبواب والسماوات، وكل شيء، حتى يصل “ذاك” المرء إلى ما وراء مبتغاه الغامض، المُبتغى المُكَوَّن من كيفيات خاصة لتعَلُّم لغة كل موجود، وبلا حذف أي موجود متعين أو متخيل، قادرين عليه أو غير قادرين، وعليه نبدأ في كشف آلية الأسطورة، ولماذا ما وراء بابٍ يختلف عما أمامه. كان الكِتاب وقتها سِِرَّاً وشَرَّاً، لأنه يمنح القارئ فرصة الاختلاف عما استقرَ وبَطُنَ في العُرفَ السائد لفهم الحياة عن طريق الآخرين، أي أن التفاعل المُنتج بيننا وبين ما نقرأه، ما يلبث أن يؤسس تدريجياً لثورة على الذات ومن ثم على الآخر. وهذا ما كان يعكسه نَهَم الحصول على كتاب جديد، فلم تكن فكرة تكوين مكتبة حاضرة من أجل الاستعارة كلما يعن عليَّ القراءة، بل أن المكتبة كانت الانتهاء الشَبِق والسريع لكل كتاب يقع فريسة لليدين والعينين والعقل، مع كامل اللذة القلبية، والوَلَه به، فهناك كينونة خارقة للكتاب بما يملك من استقلالية لا يملكها إنسان مثلك، مهما كان عارفاً أكثر منك. على الحياد، يكون كل كتاب ابن ظِلِّه، وليس ابن عقيدة صاحبه، حتى أنه يصبح مفهوماً لكل كتب شؤون العالم، الموجود منها، وغير الموجود مما حُرقَ ودُمِّر وأتلف، وكذلك الكتاب الذي لم يأت بعد، حتى آخر إنسان على الأرض. أليس ما يَصنع الفِتنة، شخص مُفْتَتِنٌ، وعالمٌ منذ بداية كل درب بضرورة الخروج من ثنائية إلى تعدد الأقطاب، بما يسمح للفِكر بالتحرَّي الغاشم والأعمى لكل ما دوننا، إذ لا فائدةَ من البصر والبصيرة في تحريهما إلا الافتتان بالإقرار لكل ما يصلا إليه. هكذا هي فترات التَكَوَّن المُلغِزة، هكذا هي الفتنة التي ماتت فيما بعد، ليصبح الكتاب والقراءة حالة ووضع جسدي وروحي، ثم ليصبحا معاً كائناً ممسوخ الحواس رغبة في اتساع رقعة الوجود إلى ما لانهاية، إذ لا يشكو المرء مما يشكو إلا لأملٍ عنيفٍ يصبو به إلى التماهي مع غير المرئي كما مع المرئي. لكل منا مع القراءة وغيرها رحلة طريق مختلفة، لكن السنين الأولى مع القراءة هي هي نفسها عند الجميع، بسبب بدايات التعرُّف والتطلع إلى رسم صديق جديد لأنفسنا، صديق تقتضيه المصلحة الخاصة، صديق يختبر معك كل الأرشيف الذي تملكه السُلطة بكل تعدداتها في عقلك، لتكون أنتَ آمِر نفسكَ وشعب نفسك. eachpattern@hotmail.com