هل أكلهم الصدأ؟ أم انتهت صلاحيتهم الإبداعية؟ هل الذي أصابهم صمم أم خرس؟ هؤلاء هم الشعراء العرب، الذين احتفلوا كغيرهم من شعراء الشعوب، باليوم العالمي للشعر الذي يصادف في الواحد والعشرين من مارس من كل عام. الشعراء العرب، يبدون في هذه المرحلة، أبناء نجباء للصمت الشعري. كل هذا الضجيج، والصراخ، والصخب، الذي يدور، استخرج من تكوينهم سمات الأقلية بكل تجلياتها الانعزالية. يعيش الشعراء العرب داخل “غيتو” صنعوه بأيديهم، فانحسروا وانحصروا بين أسواره. أصبح الشعراء العرب، أبلغ دليل على أن قضايانا الكبرى باتت بلا شعراء على غير جاري العادة العربية منذ حروب داحس والغبراء.. أو إن العكس هو الحاصل، فالشعراء العرب أصبحوا بلا قضايا ولم تعد تهزهم، لا الحناجر ولا الخناجر. ومن عجب إن الشاعرة الإسبانية كلارا خانيث التي كلفتها منظمة اليونيسكو بكتابة الكلمة التقليدية ليوم الشعر العالمي، قد استشهدت بإثنين من الشعراء العرب في كلمتها. نقلت من أدونيس أبياتا من قصيدته “بابل” لتدل بها على حال “الفكر الهزيل” التي تسبب بها “بابل الإعلامي”. أما من سجل محمود درويش، فلم تجد أبلغ من تصريحه الشهير “سجّل أنا عربي” فهو ـ كما تقول ـ “يخبر بخفقان قلبه الذي يجعل قلوب الآخرين مستعدة للخفقان، وهكذا يتحول عبر هويته كلّها إلى شهادة على قدرة الإنسان في الكشف عن ذاته، أهم قدرة فيه، وهي تلك القدرة التي تتيح له نماء لاحقا”. درويش الذي ذكرتنا الشاعرة الإسبانية بقوله الذي “يرجّ” بحسب تعبيرها، لم ينتظر جلاء غبار المعارك وصمت المدافع الثقيلة لكي يكتب قصيدته المجلجلة عام 1982. من المنفى التونسي الجديد وصلتنا إلى بيروت المنفية والمستباحة “مديح الظل العالي”. كانت في أيدي المحاصرين منشورا سريا يضع أمام أعينهم علامات الطريق، ورغيفا فذا يغذي صمودهم وإرادة البقاء. استجلى درويش في القصيدة حال أمة بأكملها في مدينة متهاوية من مدنها المنتظرة: “بيروت قلعتنا/ بيروت خيمتنا”. وبقدر ما كانت قصيدة درويش مرثية موجعة، كانت أيضا حبلى بشموس قدرها التوهج: “بيروت صورتنا/ بيروت سورتنا”. صمت الشعراء العرب، الآن، ليس بليغا. نعرف أن كثيرين منهم، يواكبون الحدث بالحضور الشخصي والموقف السياسي المباشر. لكن غيابهم الإبداعي عن المشهد يحتاج إلى تفسير. فقد أوغل الشعراء العرب كثيرا في الذاتية. أسرهم اليومي والمعاش في كتاباتهم. حفلت تجاربهم الإبداعية بالتفاصيل الصغيرة، والمشاهد المتناثرة. أصبح التجريب لديهم غاية وليس وسيلة. شغلتهم النظرية قبل القصيدة. كتبوا وأعينهم على الشهادات النقدية، التي قد تكرّسهم في مشهد الحداثة وما بعدها أو تخرجهم منه. ولم يبخل النقد في تغذية هذا النزوع.. فأصبح كل تهويم أو هذيان، محسوبا على عالم الشعر العربي. ثم يخرج من بين هؤلاء من يلوم “المتلقي” ـ كما يسمونه ـ الذي يعرض عن الشعر، فيلاقيه لائم آخر بتفسير يقول “إن الشعر لم يعد ديوان العرب”. وكأنهم بذلك يريدون تبرئة الشعر مما أصابه بأيدي الشعراء أنفسهم. من حق الرواية أن تكتب تجارب الأجيال بعد أجيال، لكن ما الذي يدفع القصيدة إلى الانتظار؟ احتفل الشعراء العرب، كغيرهم، بيوم الشعر العالمي. كتبوا، ربما. صدحت أصواتهم بقصائدهم القديمة والجديدة، ربما. لكن صوتا واحدا كان يحكي عن قضاياهم، قضايا الشعر، قضايا الأمة العربية.. هو صوت الشاعرة الإسبانية كلارا خانيث. adelk58@hotmail.com