اتصلت بي صديقة أقدّر انشغالها بالقضايا الكبرى، وحساسيتها المفرطة تجاه الإنسانية، لكنها هي على ما يبدو لي لا تقدر فرط هذه الحساسية وانعكاساتها عليها جسدياً ونفسياً، ففي كل مرة تفور الأرض تحت أقدام السائرين على بقعة أرض ما في الجغرافيا العربية ويختلط الحابل فيها بالنابالم أو بالنابل غالباً، فإن صديقتي هذه تسكن غرفة التلفزيون لا تغادرها إلا للضرورة ، وتظل في حالة حزن وتوتر إلى أن ينتهي بها الحال في المستشفى، قبل أن ينتهي الحدث نفسه ، وكم نصحتها بأن لا تعاود هذا السلوك على اعتبار أن عالمنا العربي عرضة للكثير، إلا أنها في كل مرة تعدني وتعد نفسها بالتوقف أعلم أنها ستخلف الوعد حتماً.
المشكلة أن سنة 2011 جاءت مختلفة بكل المقاييس والتصورات ، فحتى أكثر المتفائلين بإمكانية حدوث هبة عربية في مكان ما، لم يخطر على باله أن تتحول بلاد العرب إلى رقعة شطرنج تتساقط أنظمتها وفق نظرية أحجار الدومينو ، فما أن ثارت تونس حتى لحقتها مصر لتكر المسبحة يميناً وشمالاً في مشهد لا يمكن استيعابه ببساطة كما لا يمكن التكهن بنتائجه بسهولة كما يتصور، خاصة بعد تبدلات المشهد الليبي الذي تحول بقدرة قادر من ثورة شعبية إلى تدخل عسكري دولي أعاد للأذهان مشهد قصف بغداد، لكن بردود أفعال مؤيدة هذه المرة وبتصفيق حاد في كل مرة يعلن فيها عن ضرب أهداف جديدة .
صديقتي تتابع ما يحدث لحظة بلحظة، ولا أدري أهو فعل الاعتياد من جعلها أقل حساسية وأكثر صلابة، أم أن العقل البشري بطبيعته يخترع آليات دفاعه الخاصة ليحمي مكوناته وذراته من الانفجار والتطاير في كل اتجاه ؟ فقد صارت صديقتي تتحدث بفرح غامر عن خسائر القذافي – والكل يفعل حسب اعتقادي – مع علمها الأكيد بأن كل هذه القنابل المدمرة لا يمكنها أن تدمر بشكل نظيف خال من قتل المدنيين ، أيا كان هؤلاء المدنيون ، وهنا فنحن نتحدث عن فكرة الاعتياد على الموت والاحتفاء بالقتل بعيداً عن موقفنا من الحدث وإحالاته السياسية.
لقد شيأ التلفزيون القتل الممنهج عبر السينما وأفلام هوليوود الفجة، وعودنا على مشهد قتلى الفيضانات والزلازل والمجاعات والحروب الأهلية العبثية ، صرنا نشاهد الرصاص وهو يخترق عنق الضحية وصدره وكأننا نتفرج على منظر محايد لا يؤثر فينا إلا قليلا تماما مثلما نتابع دعاية سياسية تمجد قيم السلام وتنبذ الإرهاب.
لقد حول البث الفضائي الحي للمواجهات العسكرية والمواجهات المسلحة والعنف المبالغ فيه تجاه الإنسان العادي والبسيط والأعزل ، حوّله أولاً إلى مشهد صار عاديا بعد أن كنا نشيح بنظرنا حزناً وغضباً وأسىً ، وحوله إلى تفاصيل لا تعنينا كثيرا، بمعنى أنها لا تتغلغل إلى ما تحت الجلد والى ما بعد العظم كما كنا سابقا بدليل أن البعض يتناول طعامه على وقع نشرة الأخبار المليئة بالقتلى والقتل والدمار.
لقد حدث كل ما نراه اليوم لمجتمعات بعيدة عنا، ربما بوسائل أخرى غير الفضائيات ، فكثيرون عاصروا الحروب وشاهدوا يوميات القتل والدمار فيها، فصاروا أقل حساسية وأكثر تشاؤماً، ثم انتشر بينهم الانتحار والاكتئاب، فالحروب لا تدمر الأمكنة ولا تقتل البشر فقط لكنها تدمر إنسانية الإنسان وتصيب أخلاقياته بعطب شديد ودائم أحياناً!


ayya-222@hotmail.com