كثيرة هي الوجوه التي كانت في خضم الأحداث الأخيرة التي عصفت بعواصمنا العربية، فيما يسمى بالربيع العربي، ففي وسط ذلك الزحام كانت هناك قصص وحكايات تروى، وخلف بعض تلك الوجوه روايات تحكى، لاحقتها كاميرات وسائل الإعلام وقدرت أن تصطاد بعضها، وتسلط الضوء عليها لتصبح مع الوقت أشهر من وجوه الزعماء التي توارت مع تصاعد أحداث الثورات وانتصاراتها، بدءاً من ثورة الياسمين التونسية، وثورة ميدان التحرير المصرية والثورة الشعبية الليبية الجماهيرية العظمى، وليس انتهاء بثورة اليمن العاتية، وجوه نستطيع أن نقول عنها من فرح وظفر، أصبحت كل البيوت في الوطن الكبير والعالم يعرفها، ويعرف لحظة صدق فرحها، وتعبيرها الخارج من قلب جديد، وحنجرة جديدة، هو أشبه بنشيد فرحة الأوطان:
ففي تونس كل العالم توقف عند ذلك التونسي الذي هرم سياسياً، وما زال على درجة عالية من الوعي الوطني، وظهر وهو يمسح شعره الأبيض، ويعلن عن صبره وجهاده واشتعال رأسه بالشيب، و”هرمه من أجل هذه اللحظة التاريخية” كانت لحظة بين البكاء فرحاً، والفرح ببكاء يجرح الحنجرة، معلناً زهوه بلحظة هي من التاريخ الجديد لتونس، والتي طالما ظل منتظراً إياها في الشارع، وربما وحده، وكاد أن يدفن من أجلها.
وفي ليبيا ليس هناك من وجه كان أكثر تعبيراً من تلك العجوز الدرداء بوشمها الذي يخط ذقنها، وبتجاعيد الزمن وقسوته، وربما تجرعت غياب أبنائها في غياهب السجون أو جلبوا جثة أحد أحفادها لتكفنه وتودعه بدموع سوف لن تنقطع، ظهرت وهي تلوك الصبر، وكأنها تعزي أولاد ليبيا الذاهبين نحو نصرهم، وربما حتفهم، وهي توصيهم وتدعو الله لهم: “ربي سبحانه يصبّرهم، وينسّيهم..”.
وفي مصر كانت الوجوه كثيرة، لكن صوتاً واحداً لا بد وأن يجعلك تتوقف عنده، صوت صبية وهي تشرَق بفرحتها، وبكائها الهستيري، وكيف خرج ذلك الصوت الأنثوي جارحاً وحاداً وهو يستبشر بنصر قريب، تريد أن تشكر عليه كل الناس وتقبلهم: “ما فيش ظلم تاني.. ما فيش خوف تاني.. وأشكر الشعب التونسي”.
وفي اليمن الذي يخوض ثورته بنفسه، وفي عزلة شبه تامة من أي تحرك عربي أو غربي، وكأن المطلوب منه أن ينجز أموره كلها بنفسه، ظهرت وجوه صادقة وعفوية وبكلمات يمنية غارقة في تاريخها ومحليتها، أطفال رجال، ونساء أخوات رجال، ورجال قدّوا من بأس وحديد، لكن صورة اليمني الرافض لحمل السلاح، وهو القادر أن يحمل السلاح، ولن يغلب كثيراً في إيجاد السلاح، لكنه يرفض ذلك، ويصر في حديثه في كل وقت: أنه سيواجه الدبابات بصدره العاري، وسيتلقى الرصاص وهو خالع حتى قميصه أو “شميزه”.


amood8@yahoo.com