هكذا انسلوا من الحياة واحداً.. واحداً، لم يبق منهم اليوم الكثير، فقط بعدد أصابع اليد أو يزيد.. معتزلون في زوايا هرمهم، وخريف أعمارهم، هم من تبقى من رجال تلك المرحلة القاسية من حياة الناس وحياة الأوطان، رجال صنعوا من ملح الوقت، ومن الشدائد حين تعجن البشر، يتبادى لك واحد منهم، فلا ترى إلا سيماء الصبر والجَلَد عليه، وإن ودعك أحدهم فلا تتذكر منه إلا كلمة الشرف التي تربط الرجال، هكذا هم عاشوا ينحتون الصخر، ويضربون آباط الإبل، يسرحون ويسرون مواصلين نهارهم بليلهم، مهتدون بقص الأثر، واتباع النجم لكي يبقوا على رمق صغير من الحياة لهم ولمن حولهم ومن يتبعهم في زمن الفاقة، وزمن الجدب، كانوا يقدمون الآخر على النفس، ويولمون للضيف ولو باتوا على الطوى، ويؤمنون روع المستغيث، كانت تسيّرهم نخوة عربية، وعادات ضاربة في الصحراء والقدم، منها كانت الشرعة الأولى، وإليها سيرجعون إن جدّ أمر أو اختلفت الأمور، قد يتناسون كل شيء إن زحف خطر نحو الأرض والناس، فيغدوا حينها درعاً ورمحاً، وهكذا كانوا دائماً، وإن جاء القوم وسيوفهم في أغمادها، باسطين كف السلام، كانوا صدوراً مشرعة للكرم والتبجيل، وهكذا كانوا أيضاً دائماً.
كثيرون منهم كانوا حول المرحوم الشيخ زايد، وكثيرون منهم رافقوه في حله وترحاله، وكثيرون غامروا بالذهاب معه في أحلامه، استأمن بعضهم، وأوفد بعضهم، وحارب مع بعضهم، كان يسمع لهم دون حجاب ودون ألقاب، وكانوا يتشاورون معه في أمور تخص الناس، ويأتمرون بأمره، وكان هو يلقي على أكتافهم ما خف، ويحمل عنهم ما ثقل، وحينما تحققت الآمال، وأصبحت حقيقة الأحلام، وعم الرخاء لم ينسهم، وهم لم يتغيروا، كانوا، كما كانوا بأمسهم العضد والسند وقول كلمة الحق، ودالين على فعل الخير، وساعين له، متعففين عما يمكن أن يعلق بثيابهم من دنس لم يعرفوه في سابق أيامهم.
سالم بن حم.. هو واحد من أولئك الرجال، وآخر المترجلين، عاصر أحداثاً، تكشفت عن حلوها ومن مرّها، رافق المرحوم الشيخ زايد طيّب الله ثراه في حر وقر، وتسامر معه في أماكن كثيرة ليس فيها إلا صفير الريح وعواء سرحان ذيبها، كان مرآى وجهه مؤشراً لقراءة ما يشعر به الناس، وما يمكن أن ينقصهم في دنياهم، وما يمكن أن يسعدهم، وكان هو لا يدخر أن يقول كلمته، ويمكن أن يردف بعد اسم زايد طويل العمر، أو يكتفي بذلك الاسم مفرداً لشخص خبره، وترافق مع خطوه، وكان الشيخ زايد يوثق به ويعرف صدقه وطوية نفسه.
كان حزنه يوم وفاة الشيخ زايد كبيراً.. وبدمع سخين قلما يطفر من عيون الرجال الأولين، قال: لا بقت عين تحزن خلافك! وبالأمس مات مرحوماً..


amood8@yahoo.com