أناس هربوا في البدء من الرمضاء، فدخلوا في النار، أناس هيئ لهم أن يدخلوا عنق الزجاجة الليبية، فلما انكسرت، لما انفجرت، تجرحت أقدامهم وهم يسيرون عراة على وعورة الصحراء باتجاه تونس، شعب تونس استقبلهم بترحاب وكرم عربي، ولكن طاقة البلد الخارج من أتون مظاهرات واحتجاجات وبعثرة لا تحتمل كل هذه الألوف المؤلفة من النفوس البشرية. صرخاتهم المدوية علت هامات السحب، وانتشرت أنفاسهم في فضاءات الله دون جدوى، لأن الحرب المدمرة التي تشنها دبابات النظام الليبي أكلت الأشياء من حولها حتى تآكلت فتلاشت، واستوت النيران جحيماً أليماً، لا يرحم غريباً ولا قريباً. بيوت الصفيح في بنغازي تنعى حظ الأرض النفطية التي ذهبت ثرواتها مع ذهاب الكتاب الأخضر في جحيم الشعارات، وشعوذة النظريات البائسة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وحدهم سكان منازل الصفيح أن النهر الصناعي العظيم لم يسقِ عروقهم إلا من مياه المستنقعات التي تمرض وتفرض حزاماً من بكتيريا وبلهارسيا، ووحدهم هؤلاء الأشقياء يعرفون أن النظريات تعمي النظر وتسخط صاحبها كما تحبط من يعيشون حواليها. من يرَ قصف الطائرات للسكان العزل في مصراتة والزاوية يعرف جيداً لماذا كانت بلاده تصرف وتسرف المليارات لشراء الأسلحة، ويعرف أن “إسراطين” التي تحدث عنها القائد لم تكن في الحسبان، وهو يعرف لماذا لم تكن كذلك. وعندما يختلط الدوي مع الصرخات تعرف مدى التشويش الذي تفعله بعض النظريات التي لا طعم لها ولا رائحة ولا لون غير لون غلاف كتابها “الأخضر”. وليس كل أخضر يعني النمو ولا يعني العشب القشيب، بل إن بعض الأخضر كالدودة الشريطية التي تمتص رحيق الأوراق فتحيلها إلى صفراء عجفاء يابسة. ما بين قصر العزيزية في طرابلس وبيوت الصفيح في بنغازي شيء من الشؤم، وشيء من اللؤم. ما بين هذا الثابت وذاك المتحول في مشاعر الناس الأبرياء خطوة نحو الحياة وأخرى نحو الموت، فاختارت بنغازي لها موقعاً وموطناً من بين عقود من الزمن كانت المسكينة غارقة في الأتون الضحلة، مدفونة في أحلام اليقظة التي لم تنبجس عن حلم ينفع، ولا عمل يشفع سوى سجن يقطن تحت الأرض لم يزل ينفح أنوف الناس برائحة عتمته ولون جدرانه القاتمة المهيبة، يقولون إنه سجن للمعارضين، والمعارضون اليوم بعد الانتفاضة صاروا فوق سطح الأرض، صاروا يهتفون باسم ليبيا الحرة، التي لم يكونوا ينطقون باسمها قبل التصريح باسم الزعيم والقائد. فعسى يارب أن يستفيد المعارضون من الدرس، وألا تتكرر القصة ويعيد التاريخ نفسه، وألا يصير المعارض ديكتاتوراً جديداً في ليبيا. علي أبو الريش | marafea@emi.ae