سأعترف أنني لم أقرأ كتاباً واحداً وأكمله لنهايته منذ أكثر من ثلاث سنوات ، مع أنني قرأت عشرات الكتب خلال تلك السنوات ، هذا أولاً ، وثانياً فأنني أعترف بأن عدم القراءة بالطريقة التي اعتدتها طيلة سنوات عمري قد أثرت على ذاكرتي كثيراً فقد سمعت الاستاذ محمد حسنين هيكل الذي صار في ثمانينيات عمره المديد – متعه الله بالصحة – يقول إن القراءة المنتظمة تحفظ الذاكرة بل وتجعلها أكثر شفافية وبريقاً، ولذلك فهو يبدأ صباحه باكراً جداً بممارسة رياضة المشي ثم بقراءة أبيات طويلة من الشعر العربي القديم وحفظ عدد من الأبيات يراجعها لنفسه ، ومن ثم يشرب قهوته ويختلي بكتبه ومكتبته حتى الظهيرة هذا برنامج يومي لا يحيد عنه الاستاذ الا في أصعب الأوقات !
أعترف بذلك لنفسي أولا لأن الأمر كاد يصل بي الى حالة يرثى لها من القطيعة مع عامل ومكون أساسي وأصيل في شخصيتي وهو القراءة اليومية والكتاب ، إضافة لتأثيرات هذه القطيعة على ذاكرتي التي صرت اتفقدها بين ووقت وآخر فأجد التفاصيل الصغيرة تتفلت منها بسهولة ثم أجد تذكرها صار صعباً بعض الشيء ما جعلني أنظر للأمر باعتباره كارثة حقيقية توازي – بالنسبة لي - زلزال اليابان ، وأعلم أن الأمر لاعلاقة له بما قد تظنون أو بما خطر في بالكم وأنتم تقرأون ، أعلم ذلك تماماً وسأقول لكم لماذا ؟
تفلت التفاصيل من ذاكرة كاتب يومي أمر سيء ومؤشر لا يدعو للاطمئنان ، وهو لا علاقة له بسنوات العمر أبداً ، لكنني أتفق معكم أن له علاقة بضغوطات الحياة واحباطاتها وهزاتها العنيفة إضافة لكل هذا العنف الذي نشهده على مستوى السياسة كما على مستوى الطبيعة ، ومع ذلك فأنني أضيف سبباً جوهرياً بالنسبة لي وهو القراءة التي وطنت نفسي عليها مذ كنت في العاشرة من عمري ، وظلت ملازمة ليومياتي ولأسفاري وتنقلاتي وحلى وترحالي ، حتى صرت على قناعة بأن قوة ذاكرتي لها سببان : الوراثة والقراءة .
حين بدأت ملاحظتى لمسألة النسيان المتكرر لم اذهب للطبيب ولم يتبادر لذهني أنني أعاني نقصاً في الفيتامينات ، لكنني جلست واسترجعت مقولة هيكل وتتبعت سيرة القارئ في حياتي وفهمت العلة لكنني لسبب أو لآخر لم أهرع للعلاج الا حين انتهيت من تلك الأسباب ، فمع صباح أول يوم في الدورة الحالية لمعرض أبوظبي للكتاب ، نهضت وليس في ذهني سوى فكرة واحدة : إجراء مصالحة جذرية مع القراءة الجادة لترميم العلاقة مع الكتاب ، كنت كمن قرر إرسال قوات تدخل سريع لإنقاذ الذاكرة بفرض حظر كلي على طريقة التعاطي اللاهي مع القراءة .
ظهرت النتيجة بأسرع مما توقعت ، فأولا هدأت كثيراً ، وصفا ذهني بشكل صرت أرى تفاصيل الأشياء وأنا اقرؤها وأتذكرها ، ثم شارفت على انهاء نصف الكتاب الذي بدأته في الصباح ، ومن ثم ذهبت إلى أبوظبي لزيارة المعرض ، وتذكرت أسماء كتب كثيرة كنت على وشك إعادة شرائها مع أنها في حوزتي بالفعل ، لقد تذكرت تفاصيل عناوينها وألوان أغلفتها ، كان ذلك مؤشراً جيداً ، وحين عدت في المساء قرأت جزءاً من الكتاب ثم أكملته تماماً في صباح اليوم التالي ، وبالمناسبة فالكتاب رائع جداً والكاتبة أكثر روعة حيث تمثل جيلا جديداً من كتاب الرواية الأوروبين بأسلوب وتكتيك وأدوات غاية في التأثير .


ayya-222@hotmail.com